إدمان الغرب على الحرب يجب أن ينتهي في غزة

قبل شهرين نشرت مقال رأي بعنوان “صرخات غزة تصل إلى أفغانستان”. كنت آمل تذكير القادة الأميركيين والغربيين بمدى سرعة انحدار الحروب على الإرهاب إلى حروب إرهابية، مخلفة تأثيرات غير متناسبة على المدنيين، وتنعدم القدرة على التنبؤ بمستقبلها بمجرد اندلاعها.
الولايات المتحدة وتحالفها الغربي ممن يخوضون “حروبا أبدية” دخلت منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 صراعات بذريعة هزيمة الإرهاب، عززت موقف أعدائها السياسي والعسكري بدلا من تدميرهم، وتسببت في معاناة هائلة للملايين من المدنيين، بمن فيهم مواطنوها أنفسهم.
مشروع تكلفة الحرب التابع لجامعة براون والعديد من المجموعات البحثية المستقلة الأخرى يقولان إن 4.5 مليون حالة وفاة مباشرة وغير مباشرة كارثية كانت نتيجة الجهود الغربية الرامية إلى “هزيمة الإرهاب” منذ 11 سبتمبر 2001.
◙ مع تواصل الاحتجاجات الحاشدة في المدن الأميركية الكبرى التي تدعو إلى وقف إطلاق النار، تجاوز الرئيس جو بايدن الكونغرس في مناسبتين لإيصال المزيد من الأسلحة إلى إسرائيل
وبعد هذه الكلفة هذا ما آل إليه الوضع في أفغانستان والعراق واليمن وسوريا وليبيا؛ طالبان تحكم اليوم أفغانستان مرة أخرى، واقترب العراق أكثر إلى دائرة النفوذ السياسي الإيراني بعد أن شهد سنوات من العنف الطائفي الناتج عن الغزو الأميركي، ولا يزال حكم بشار الأسد الاستبدادي قائما في سوريا. وكانت تحرّكات الحرب الجوية التي قادتها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لتخليص ليبيا من معمر القذافي في 2011 ساذجة لدرجة أنهما لم يعيرا أيّ اهتمام لكيفية إشعال هذا المسعى المتهوّر والعنيف حربا أهلية وإرهابا وهجرة جماعية. وتسبّب دعم الولايات المتحدة لحرب المملكة العربية السعودية ضد المتمردين في اليمن في مقتل أكثر من 200 ألف يمني وعزز الحوثيين إلى درجة أننا نشهد “لأول مرة في التاريخ، حصارا بحريا ناجحا” تنفذه جهة فاعلة غير حكومية “دون بحرية وبتكنولوجيا رخيصة ومنخفضة الجودة”.
نفس الغطرسة التي أعمت إدمان الغرب على الرد على الإرهاب بالحرب منذ 11 سبتمبر2001 تتكرر وتغذّي دعمه غير المشروط لحرب إسرائيل ضد حماس اليوم. ولكي نكون واضحين، تستحق هجمات حماس في 7 أكتوبر 2023، مثل هجمات القاعدة في 11 سبتمبر 2001، أقسى إدانة عالمية واستجابة إستراتيجية متناسبة تحترم القانون الدولي. لكن هذا لا يبرر الدعم والتحصين غير المشروطين لحرب إسرائيل العقابية على سكان غزة المدنيين العزّل، وبنيتها التحتية المدنية، وتراثها الثقافي والديني، مع تعريض حياة الرهائن الإسرائيليين أنفسهم للمزيد من الخطر. ولا تخدم هذه الحرب أي هدف عسكري إسرائيلي، ولا تقدم أي فائدة إستراتيجية لأولئك الذين يساعدون ويحرّضون على الحرب من واشنطن ولندن ومختلف عواصم الاتحاد الأوروبي.
كل ما تفعله إسرائيل ومؤيدوها بقيادة الولايات المتحدة في سعيهم للقضاء على حماس هو القضاء على غزة. وسجّل القطاع في غضون 100 يوم مقتل 4 في المئة من سكانه. تسعون ألف رجل وامرأة وطفل في قطاع غزة قتلوا أو أصيبوا بجروح خطيرة أو اختفوا. 75 في المئة من القتلى هم من النساء والأطفال. لم يكن هؤلاء من مقاتلي حماس.
إذا كانت غزة تسمّى سجنا مفتوحا قبل هذه الحرب، فهي الآن مقبرة مفتوحة. وتبرز نسبة الـ4 في المئة مأساة أكبر تتوسع كل دقيقة. وتستهدف إسرائيل، دون أيّ اعتراض من أولئك الذين يزوّدونها بالأسلحة والغطاء السياسي، العاملين الفلسطينيين في مجال الرعاية الصحية، وأخصائيي الإغاثة الإنسانية، والصحافيين، والفنانين، والشعراء، ونشطاء المجتمع المدني، والمعلمين، وعائلاتهم. كما تطمس إسرائيل، من خلال تعاون حلفائها الغربيين، البنية التحتية السكنية والخدمات العامة في غزة كما لو أن قتل أطفال القطاع وألمع أبنائه لم يكن كافيا.
وأكّد مسح أجرته صحيفة “وول ستريت جورنال” لصور الأقمار الصناعية أن “إسرائيل قصفت ودمرت 70 في المئة من المنازل في غزة”. وذكرت منظمة الصحة العالمية أن مستشفيات القطاع البالغ عددها 36 توقفت عن العمل. وأشرفت قوات الدفاع الإسرائيلية على تفجير الجامعات، بما في ذلك كلية الطب الأساسية. ولم تسلم من غضب الهجوم الإسرائيلي الغربي على غزة أماكن العبادة والمساجد والكنائس، التي كانت تاريخيا أماكن لجوء في أوقات الحرب.
التحقيقات التي أجرتها صحيفة “واشنطن بوست” و”تراست آوت ستيت” تشير إلى أن “إسرائيل ضربت غزة بأكثر من 22 ألف قنبلة أميركية الصنع، بما في ذلك مخترقة التحصينات التي تزن ألفي رطل. ويحذر الخبراء من أن هذه الكمية ليست مخصصة للمناطق المكتظة بالسكان. كما اعتُمد الفوسفور الأبيض الذي تنتجه شركة تصنيع الذخائر، باين بلاف أرسنال، في ولاية أركنساس الأميركية والذي تلقته إسرائيل من الحكومة الأميركية على مر السنوات.
◙ على بايدن قبل كل شيء سماع دعوات مواطنيه، بما في ذلك الآلاف من اليهود الأميركيين الذين يطالبون بعدم استخدام آلامهم وهويتهم لشن حرب أخرى لا معنى لها باسمهم
ومع تواصل الاحتجاجات الحاشدة في المدن الأميركية الكبرى التي تدعو إلى وقف إطلاق النار، تجاوز الرئيس جو بايدن الكونغرس في مناسبتين لإيصال المزيد من الأسلحة إلى إسرائيل. كما واصلت المملكة المتحدة وأوروبا تزويد تل أبيب بالأسلحة الرئيسية منذ بداية الحرب رغم دعوات مواطنيها الصاخبة للوقف الفوري لإطلاق النار.
وعندما سئل المسؤولون الإسرائيليون والأميركيون والبريطانيون والأوروبيون عن هذه الفظائع، كان ردهم الوحيد هو “هل تدينون حماس؟”. يجب أن يكون الجواب دائما نعم، لكن جرائم حماس ضد المواطنين الإسرائيليين في 7 أكتوبر لم تكن ترخيصا لإسرائيل والغرب لقتل جميع السكان المدنيين العزل في غزة وتشويههم وتشريدهم. ويعتبر منطق إسرائيل القائل بأن حماس تعتمد المدنيين في غزة دروعا بشرية، لتبرير أيّ شكل من أشكال العمل العسكري الذي تراه ضروريا، جريمة ضد الإنسانية. وتعدّ هذه حجة مظللة تهدف إلى خلق ضباب من الحرب يتكرر مع الإهمال الإجرامي الذي يرتكبه عدد لا يحصى من القادة والمسؤولين الحكوميين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأوروبا.
من الصعب تخيل النهاية الحتمية لمعاناة مليوني فلسطيني والرهائن الإسرائيليين الـ132 المتبقين في غزة، والتي يربطها التاريخ والجغرافيا بالأحداث المأساوية التي وقعت في 7 أكتوبر. ربما سيوقفها الحكم التاريخي الصادر عن محكمة العدل الجنائية الدولية، لكن هذا قد يستغرق شهورا. وسترتفع في الأثناء الفظائع التي ترتكب ضد سكان غزة، وستدخل محنة الرهائن الإسرائيليين مرحلة أكثر قتامة.
لا يتمتع حكم أعلى محكمة في العالم خلال الفترة الماضية بسلطة التنفيذ، على الرغم من أنه ملزم قانونا. كما أن الأمر الذي أصدرته المحكمة لإسرائيل “باتخاذ تدابير تمنع المزيد من الأذى للفلسطينيين” دون أن تأمر فعليا بوقف إطلاق النار لم يفكر في شهية النخب السياسية في العالم الراسخة والمريضة للحرب، فهي تقدم دعمها غير المشروط لحرب إسرائيل على السكان المدنيين في غزة، وتشارك فيه وتستفيد منه.
المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان ذكر أن “إسرائيل حافظت على معدل القتل في غزة منذ حكم محكمة العدل الدولية” مع شبه غياب ردود الفعل من القادة الغربيين. ويصعب – إن لم يكن مستحيلا – إيقاف غضب الدول القوية بمجرد تشغيل آلات الحرب، بغض النظر عن الحكم السياسي والإقناع. ولا يختلف هذا في إسرائيل.
الولايات المتحدة استغرقت عشرين عاما لإنهاء حربها في أفغانستان وحوالي عشر سنوات في العراق، ولا تزال تشن عمليات لمكافحة الإرهاب مع المملكة العربية السعودية في اليمن على الرغم من تأثيرها الكارثي والمميت على المدنيين اليمنيين. وتواصل أوروبا دعمها الثابت لاستمرار الحرب في أوكرانيا لغطرستها السياسية. وتواصل روسيا، على الرغم من يدها العليا في أوكرانيا، القتال المسبب لعواقب وخيمة على كل من الروس والأوكرانيين. فلماذا يجب الاعتماد على نتنياهو وحكومته الحربية لكبح جماح حربهم في غزة؟ يشبه دعاة الحرب الإسرائيليون نظراءهم الأقوياء عسكريا، فليس لهم حدود.
جميع سكان شمال غزة أصبحوا مشردين داخليا، وتجبرهم إسرائيل على التحرك جنوبا نحو رفح على الحدود المصرية. وكثفت إسرائيل عملياتها البرية باتجاه رفح على الرغم من قرار محكمة العدل الدولية. ولجأ مئات الآلاف من شمال غزة بالفعل إلى ضواحي المدينة، ويعيشون لأسابيع في مناخ صحراوي قاس. وإذا واصلت إسرائيل هجومها العنيف على رفح، فسيجد جميع سكان غزة أنفسهم محاصرين في زاوية صغيرة من الصحراء دون حماية أو ممر آمن للخروج.
أولئك الذين نجوا من الغارات الجوية اليومية يموتون الآن من الجوع والمرض والإصابات التي لم يتمكنوا من علاجها بسبب تدمير نظام الرعاية الصحية في غزة. كما يضطر مليونا شخص الآن إلى تحمل الصدمات الشديدة في سعيهم لمحاولة البقاء على قيد الحياة دون أيّ مأوى قابل للحياة والغذاء والمياه النظيفة والصرف الصحي والكهرباء والممر الآمن، بينما يحيط بهم القصف الجوي والبري المستمر والقناصة وهجمات الطائرات المسيّرة والبرد وأمطار الشتاء، وربما الأسوأ من ذلك كله، تقاعس قادة العالم الذين يتمتعون بالقدرة على إنهاء حملة الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة وهجومها على السكان المدنيين في الضفة الغربية، حيث لا تشغل حماس أيّ منصب في السلطة.
◙ الولايات المتحدة وتحالفها الغربي ممن يخوضون "حروبا أبدية" دخلت منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 صراعات بذريعة هزيمة الإرهاب، عززت موقف أعدائها السياسي والعسكري بدلا من تدميرهم
الولايات المتحدة، وتحديدا الرئيس بايدن، تبقى في وضع فريد للضغط على إسرائيل لاحترام كل حكم تصدره محكمة العدل الدولية. لقد نسيت الولايات المتحدة أنها تتمتع بالقوة الناعمة. وكان هذا نهجا أهملته بشدة طوال العقدين الأخيرين، ربما نظرا لاعتمادها على الحرب كرد على كل تحد في السياسة الخارجية منذ 11 سبتمبر 2001.
وتعدّ أسهل طريقة يمكن للرئيس بايدن أن يثبت من خلالها أنه والولايات المتحدة لا يزالان ملتزمين بالقانون الدولي هي الإعلان عن دعمه الشخصي لوقف فوري لإطلاق النار وإظهار دليل على أنه يضغط على إسرائيل لتحقيق ذلك. كما سيتوجب عليه الضغط لبذل جهود قوية ومستقلة لتقديم المساعدات الإنسانية دون أي تدخل إسرائيلي على مستوى المعابر الحدودية إلى غزة.
كل هذا يفترض أن الرئيس بايدن سيكون على استعداد للتوقف عن الاستماع إلى سياج المساعدين والمستشارين الذين أحاط بهم نفسه ورؤية حجم المعاناة والمخاطر الرهيبة التي تخلقها الحرب الإقليمية الأوسع نطاقا التي تعرض حياة الأميركيين للخطر بالفعل.
مصدر يتمتع بخبرة واسعة في السياسة الخارجية الأميركية ذكر أن الهجوم المميت الذي تكبدته القوات الأميركية على الحدود بين الأردن وسوريا خلال الأسبوع الماضي “يظهر كيف أن إسقاط القوة العسكرية الأميركية يعمل على تأجيج الصراع بدلا من تخفيفه”. ويمكن الآن لعائلات هؤلاء الجنود الأميركيين الانضمام إلى لائحة تضم جميع الفلسطينيين والإسرائيليين الذين دُمّرت حياتهم بسبب جنون هذه الحرب التي كان من الممكن منعها والكارثة الإنسانية المتواصلة لأسباب يمكن منعها.
وعلى بايدن قبل كل شيء سماع دعوات مواطنيه، بما في ذلك الآلاف من اليهود الأميركيين الذين يطالبون بعدم استخدام آلامهم وهويتهم لشن حرب أخرى لا معنى لها باسمهم. وسيخلّف الفشل في ذلك عواقب لا يمكن تصورها للإسرائيليين والفلسطينيين وللعالم ككل.