الرهان على أجمل فكرة في العالم

أحيانا، وبسببه، أشعر بخيبة كبيرة. هل هذا هو الإنسان الذي راهنت عليه وعلى محبته، التعاطف معه، والوقوف إلى جواره؟
عندما يكون الإنسان هو رأس أفكارك، ثم يخذلك مرات كثيرة، عندما أنظر حولي فأرى إنسانا يقتل إنسانا، قتل، قتل، وأسأل نفسي أسئلة جديدة عن هذا الكائن الذي وضعت عليه كل رهاناتي، واشتريته بكل ما لديّ، ثم هو يجعلني أشعر بالعار، يبعثر حولي رؤوسا مقطوعة، بطونا مبقورة، قلوبا ممزقة، جثثا تحترق، ودما يسيل، كأن الإنسان قد كفر بنفسه وبفكرة الإنسانية، وعندما يفعل ذلك فلن يكون لديه أيّ إيمان، ولينتظر أسوأ نهاية، هل هذا ما راهنت عليه؟
أتحدث هنا عن كل قتل، عن كل إنسان يقتل، عن كل إنسان يقتل في أيّ مكان، أراجع تاريخ الإنسان فأجد عددا لا نهائيا من القتلى، أكواما من الجثث تملأ تاريخ البشر، لا أفهم كيف يمكن لإنسان أن يقتل إنسانا، لا أفهم كيف كان البشر جميعا من نفس الأب والأم، كيف كنا معا ثم يقتل بعضنا بعضا، حتى لو كنا من ألف أب وألف أم وألف مكان، القتل أبدا لن يكون مفهوما، ولن يكون هناك سببا يجعله مباحا.
◙ الإنسان، الفرد، هو أكثر كائن في العالم يواجه اختبارات عن جدارته بالحياة، ربما يتعرض لعدة اختبارات في اليوم الواحد
منذ بداية التاريخ والإنسان يقتل، الآن فقط أكتشف هذا، القتل ليس جديدا عليه، فعلها منذ بداية وجوده على الأرض، هل هذا ما راهنت عليه؟ لم يحدث في أيّ مملكة من ممالك الأرض، حتى في مملكة الحيوان إن حدثت كل هذه المجازر، في مملكة الإنسان فقط توجد المذابح، المحارق، المشانق، والإبادة الجماعية، القتل لاختلاف اللون واللغة والمعتقد، والرأي، لأجل الحصول على مساحة إضافية من أرض، أو لفكرة ما تملكت عقل شخص ما، مئات الأسباب اخترعها الإنسان طوال تاريخه ليقتل.
هناك أيضا القتل لأنك لست أنا، لهذا كانت المقابر، كي يدفن الإنسان عاره، حتى المقابر لم تكفه، فملأت الجثث الشوارع والبيوت والغابات والأنهار، هل هناك نهر أو شجرة أو شارع لم يتلوث بدم إنسان؟ الإنسان الذي لم يتردد في أوقات كثيرة عبر تاريخه، أن يقف فوق جثة أخيه الإنسان كي ينشئ ما يسمّيه “حضارة” ما، في مملكة الإنسان فقط العالم ضيق، كل هذا العالم لا يسعنا.
طوال تاريخه، مرت على الإنسان فترات من الانحطاط لم يكن ليجرؤ عندها أن يقف وسط أيّ مملكة من المخلوقات ويدعي الفخر بنفسه؟ أو يقول “أنا الإنسان”، وأنا؟ هل هذا ما راهنت عليه؟
أتمنى لو أقابل كل إنسان يقتل، وأطلب منه أن يتوقف لحظة واحدة ويفكر، تذكر من أنت، وما تفعله، فقط فكر لحظة واحدة، هل هذا ما تريد أن تفعله، هل هذا ما تتصوره عن نفسك، ما تعتقد أنك موجود لأجله، هل أنت مخلوق لكل هذا الكره، والدم، أليس من الأفضل لوجهك أن يمنح ابتسامة، وليدك أن تزرع شجرة، أو تقدم كسرة خبز أو رشفة ماء، أليس من الأفضل لنا أن يسعنا العالم، فقط لو نظرنا حولنا لوجدناه أكبر بكثير مما نحتاج، لماذا نحن أغبياء إلى هذا الحد، دمويون إلى هذا الحد، قتلة إلى هذا الحد؟ وأنا؟ هل هذا ما راهنت عليه؟
لقد راهنت على الإنسان، ولو خسرت هذا الرهان فليس هناك ما أكسبه، لا مكسب آخر سيفرحني أو يعوضني.
لكن، أفكر، هناك ما يجعلني أبقى على هذا الرهان، لا يمكنني تجاهل أنه حتى في تلك البداية البعيدة، عندما مد أحد الأخوين يده بالقتل فإن الآخر قد مد يده بالسلام.
الإنسان هو نفسه من أنشأ كل هذه البيوت الآمنة، الشوارع الصديقة، وأطلق في العالم ملايين الأفكار التي جعلته مكانا أفضل، كل هذه الكتب، من ملأها بأفكار عن الجمال، الحب، السلام، الرحمة، الشعر، الحكايات، والموسيقى، الإنسان هو نفسه من استخلص روح العالم، اختصره في مقطع من شعر، مقطوعة موسيقية، أو حكاية رائعة، كل أنهار العالم، بحاره، أشجاره، ليله، نهاره، وكائناته، كلها في كتب سطّرها الإنسان بروحه ويده، هو من جعل لجمال العالم معنى، هناك ما يجعله يقف بين الكائنات ويقول “أنا الإنسان”.
جرّب أن تنزع الإنسان من لوحة الوجود، لن يكون لهذا الوجود معنى، الإنسان أحد أقوى أسباب وجود العالم، هو من يجعله حقيقيا ومفهوما، أنا أثق أن الله ما خلق الإنسان إلا لأنه يحبه، ولم يكن ليحبه لو أنه ليس جميلا.
ثم إني أفكر بأن لا شيء على الأرض أقوى من الروح الإنسانية، أنا أقدر هذه الروح التي ظلت صامدة رغم كل ما مر بها، الإنسان، الفرد، هو أكثر كائن في العالم يواجه اختبارات عن جدارته بالحياة، ربما يتعرض لعدة اختبارات في اليوم الواحد.
أفكر في أنه يمكنني الرهان على الإنسان، رغم كل شيء، أراهن لأجل بشر يعرقون كل يوم في عمل بسيط، شريف، لأجل المتجولين، المتشردين، أراهن لأجل بشر لم يصنعوا “مجدا”، أو “حضارة”، لم يفعلوا شيئا ذا بال، لم يعرفهم أحد، لكن الكون يعرفهم، تعرفهم الأرض التي مشوا عليها، السماء التي أظلتهم، ويعرفهم خالقهم، أراهن لأجل الأمهات، الآباء الكادحين، ومن عاشوا بلا أم أو أب أو ابن أو أخ أو أخت، الحيارى، الضائعين، التائهين، المبتسمين على الدوام، الحزانى دوما، المتألمين إلى الأبد.
أراهن لأجل الزراعين، الحصادين، البنائين، رعاة البهائم، فاقدي الذاكرة، حاضري القلوب، مستيقظي الضمير، لأجل أثداء الأمهات، تلاميذ المدارس، الخبازين، الحكائين، السقايين، الأطفال الحفاة، البنات والنساء المنكفئات على ماكينات الخياطة، بقعة عرق في ظهر امرأة مكافحة، الباعة المتجولين، المسافرين الأبديين، النائمين على أرصفة المدن، الجوعى، العطشى، من عاشوا دون شهرة أو مال، أو رغبة فيهما، حتى لم يكتبوا أسماءهم مرة بالطبشور في رصيف أو جدار، من لا يخشون الحياة أو الموت، المشائين في بلاد الدنيا، قاطفي القطن والثمار، مانحي الأمل.
☚ ينشر المقال بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية الشهرية اللندنية
أراهن على من يتقاسمون كسرة الخبز الوحيدة، رشفة الماء الأخيرة، ولا تزعجهم الرائحة الإنسانية، محبى البشر، داعمي فكرة وجود العالم، وجماله، من لا يصدقون أن الإنسان مشى فوق القمر، من لا يصدقون أن الإنسان بإمكانه تدمير العالم، من يقبلون كل البشر، وليس في لغتهم الخاصة كلمة “الآخر”، من يصدقون أن الإنسان هش جدا، أصحاب الملابس الغارقة في العرق، والقلوب الطافية فوق نهر الحياة، الذين ملكهم العالم نفسه، لأنهم لا يملكون منه شيئا، وهل هناك من يمتلك شيئا في العالم بالفعل؟
أي مغفل يعتقد ذلك؟ أراهن لأجل من عاشوا حياة حقيقية تليق بإنسان، لأجل من يعرفون أن ما يمتلكونه من العالم هو ما بداخلهم، وهم في الوقت نفسه يقدمونه إلى غيرهم، فينمو به العالم، وينمو ما بداخلهم أكبر كلما قدموه لغيرهم أكثر، هم صانعو “المجد” الحقيقي في العالم، ولولاهم ما تحققت فكرة الإنسانية.
عندما أنظر في عيون البشر، أرى الحزن في عيونهم متشابها، ويشبه حزني، عندما أسمع ضحكهم أجده متشابها، ويشبه ضحكي، مقاس أحضانهم واحد، وهو بمقاس حضني، حجم قلوبهم واحد، وهو بحجم قلبي، وأثق أنها ليست مصادفة.
أنا لن أفقد إيماني بالإنسان، لن أسحب رهاني عنه، وأعرف أنني لن أخسر، لكني في الوقت نفسه، لن أتوقف عن مساءلته، وعليه دوما أن يثبت جدارته بالعالم، والحياة. فبالنسبة إليّ، سيظل الإنسان: أجمل فكرة في العالم.