صحيفة حسب الطلب

عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، والصحف لن تعود إلى أيدي ركاب القطارات. ولكن، مازال هناك دور حاسم تلعبه الصحيفة، خاصة على مكاتب صناع القرار.
الجمعة 2024/01/26
اليوم اختفت الظاهرة واختفت معها متعة تصنيف الناس

يقال إن وفرة العشب “تعمي قلب الدابة”. من بين الأمور التي ينطبق عليها هذا القول أشدّ ما يكون الانطباق الحيرة التي يقع فيها متصفح الإنترنت اليوم أمام فيض الأخبار.

أن تكون الأخبار موجودة بوفرة فليس معنى ذلك بالضرورة أن تكون الاستفادة منها أكبر؛ كلما ازداد كم الأخبار على مواقع التواصل الاجتماعي صعبت عملية فرز الغث من السمين بينها.

أجمل ما يمكن أن تبدأ به يومك هو صحيفة مطوية ترمى على باب دارك، أو توضع على مكتبك إلى جانب فنجان قهوة.

على مدى سنوات طويلة استمتعت بهذه النعمة؛ نعمة أن ترى على المكتب مجموعة من الصحف والمجلات، تنتظر قدومك لتمتد إليها يدك فتقلّب صفحاتها.

هناك من سبقنا إلى العمل باكرا، أو من لم ينم أصلا، لينكب على انتقاء أفضل الأخبار، يقرأها ويعيد صياغتها، ويقدمها إلينا وجبة صباحية شهية مطهية بعناية فائقة.

نعم مطهية، فنحن كنا وما زلنا نطلق على قاعة التحرير في الصحيفة مطبخ الأخبار. هذا المطبخ تحول اليوم إلى مطبخ افتراضي.

في المطبخ الصحفي يتم تجميع الأخبار وتحليلها والتعليق عليها، لتخرج كل صحيفة بنكهة ومذاق فريديْن يرضيان عينة من الزبائن الذين أدمنوا على قراءة الصحيفة، يقلبونها من آخر صفحة وصولا إلى أول صفحة.

في لندن، حيث أمضيت معظم سنين حياتي المهنية، كما في العواصم العربية، كانت هناك أطباق صحفية مختلفة يختار المرء من بينها ما طاب له؛ البعض يفضل طبق التايمز، وآخرون يفضلون طبق الغارديان، وهناك من يختار الإندبندنت أو الديلي ميل، أو الديلي ستار أو ذا صن… إلخ.

في رحلة القطار اليومية إلى مقر الصحيفة -كانت تستغرق عادة ساعة كاملة- لطالما استمتعت بمتابعة ركاب مواظبين يوميا على القيام بالرحلة نفسها، وقد دفنوا وجوههم في صحف لم يجف حبرها بعد، الوجوه نفسها والصحف ذاتها أيضا.

كان ذلك يمنحني القدرة على تصنيفهم -أو هكذا خيل لي- سياسيا واجتماعيا وثقافيا؛ فبينما يختار العاملون في منطقة سكوير مايل (الميل المربع) -حي المال في لندن- صحيفة فايننشال تايمز الاقتصادية العريقة التي تأسست عام 1888، يختار العاملون في قطاع الخدمات اليومية والمهن الحرة صحيفة من صحف التابلويد. أما من كانت ميوله محافظة فيختار غالبا صحيفة الديلي ميل.

أغلب الركاب يختارون بين صحيفة الديلي ميرور وصحيفة ذا صن، وهما الجريدتان البريطانيتان الأوسع انتشارا. الصحيفتان تتسابقان على نشر الأخبار الرياضية وأخبار المشاهير والجريمة والجنس والفضائح.

في طريق العودة بعد يوم مجهد يتساوى الجميع، لن تجد في الأيدي سوى صحيفة إيفننغ ستاندرد، وهي صحيفة لندنية تأسست عام 1827 بعنوان ذا ستاندرد. في عام 2009 اشترى رجل الأعمال الروسي ألكسندر ليبيديف الصحيفة، لتصبح مجانية، وهو ما زاد من انتشارها وشعبيتها.

اليوم اختفت الظاهرة واختفت معها متعة تصنيف الناس، الجميع منفض مما حوله يتصفح هاتفه المحمول.

لنكن صادقين مع أنفسنا، هذا المشهد لن يتغير. عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، والصحف لن تعود إلى أيدي ركاب القطارات. ولكن، مازال هناك دور حاسم تلعبه الصحيفة، خاصة على مكاتب السياسيين وصناع القرار.

مع تزايد الحديث عن التضليل الإعلامي ستنتشر الصحف الرقمية “المطبوخة” خصيصا لكل فرد، حيث يقوم الذكاء الاصطناعي بإعدادها يوميا، ويضعها على المكتب مطوية إلى جانب فنجان القهوة.

18