الألمان ينتفضون ضد خطط اليمين المتطرف لإعادة التهجير

برلين - عاشت محافظات ألمانية نهاية الأسبوع الماضي، على وقع مظاهرات واسعة تتصدى لليمين المتطرف الذي بدأ يروج في حملته الانتخابية لمصطلح “إعادة التهجير”، ما يوضح نواياه في تهجير كل من لم يولد على الأراضي الألمانية.
في يوم السبت وحده، خرج ما لا يقل عن 300 ألف متظاهر إلى الشوارع، من بينهم 35 ألفا في مدينتي فرانكفورت المطلة على نهر الماين وهانوفر وحدهما، و30 ألفا في دورتموند، و9 آلاف في إرفورت عاصمة ولاية تورينغن، حيث يسعى السياسي من حزب البديل من أجل ألمانيا (يميني متطرف)، بيورن هوكه، إلى قيادة حكومة الولاية عقب الانتخابات الإقليمية المقررة في الخريف المقبل حال فوز حزبه فيها.
ويوم الأحد، احتشدت في المظاهرات أعداد أكبر، ففي ميونخ اضطرت السلطات بسبب الاكتظاظ إلى إيقاف المظاهرة، حيث لم يعد من الممكن ضمان سلامة المشاركين. وقدرت الشرطة عدد المشاركين بما لا يقل عن 80 ألفا، بينما تحدث المنظمون عن مشاركة 250 ألف متظاهر.
وفي كولونيا تحدث المنظمون عن مشاركة 70 ألف متظاهر. ووفقا لتقديرات الشرطة، شارك ما يصل إلى 45 ألف شخص في مسيرة في بريمن. وفي برلين احتشد ما لا يقل عن 60 ألف شخص في مسيرة أمام البرلمان الألماني. ولم تستبعد الشرطة أن تكون الأعداد هناك قد وصلت إلى 100 ألف شخص في ظل التدفق كبير والحراك المستمر.
وتعرف بونيتا تماما ما هو شعور أن تكون مواطنا من الدرجة الثانية. وتروي بونيتا التي قدمت إلى ألمانيا قبل 28 عاما وهي في عمر الثامنة عشرة قائلة: “أنا مواطنة من جنوب أفريقيا وعشت في حقبة الفصل العنصري. أعرف ما يعنيه عدم التمتع بالحرية والعيش في خوف لأن الحكومة تقول: ليس لك رأي هنا”.
نشأت بونيتا في ألمانيا وحصلت على الجنسية الألمانية، وتعتبر ألمانيا موطنها، لأنها دائما ما كانت تشعر بأنها آمنة فيها، حيث لا يمكن أن تفقد حقوقها المدنية مجددا، ولكن هذا اليقين تحطم الآن فجأة.
وتقول الشابة: “أخشى أن يحدث في مرحلة ما أن حزب البديل من أجل ألمانيا يقرر أن أولئك الذين لم يولدوا هنا يجب أن يعودوا. ماذا سيعني ذلك بالنسبة لي ولعائلتي؟ هذا هو خوفي”. ولهذا السبب ذهبت بونيتا إلى كولونيا يوم الأحد الماضي للتظاهر ضد التطرف اليميني، مثلما فعل مئات الآلاف من الأشخاص في العديد من المدن الألمانية الأخرى مطلع هذا الأسبوع.
ويقول الباحث في شؤون النزاعات أندرياس تسيك إن النطاق الجغرافي للمسيرات لافت للنظر، موضحا أن المظاهرات تم تنظيمها في شرق ألمانيا وغربها وفي المدن الكبرى وكذلك المدن الصغيرة، مشيرا إلى أنه علاوة على ذلك شارك في المظاهرات أشخاص لم يتظاهروا من قبل أو لم يتظاهروا منذ سنوات.
يقول تسيك: “لم يكونوا فقط من الأوساط الحضرية المتعلمة والمهتمة بهذه القضايا كما هو متوقع، بل المجتمع المدني بمختلف أجياله”، مضيفا أن الأمر كان أشبه بهزة قد مرت بالمجتمع، وقال: “لم يحدث منذ وقت طويل أن دعم قضاة وكنائس وكذلك شركات المظاهرات بشكل واضح على هذا النحو”.
لكن ما الذي أثار هذه الهزة فجأة؟ يحقق حزب البديل من أجل ألمانيا نتائج قوية في استطلاعات الرأي منذ عدة أشهر. وربما يرجع الأمر إلى التفاصيل المحددة والمخيفة التي كشف عنها التقرير الاستقصائي الذي نشرته شركة “وريكتيف” الإعلامية حول اجتماع متطرفين يمينيين في فيلا بمدينة بوتسدام في نوفمبر الماضي، والذي شارك فيه أيضا العديد من ساسة حزب البديل بالإضافة إلى بعض أعضاء الحزب المسيحي الديمقراطي وجمعية “اتحاد القيم” المحافظة للغاية.
وتحدث الرئيس السابق لحركة “الهوية” اليمينية المتطرفة في النمسا، مارتن زيلنر، خلال هذا الاجتماع عن “إعادة التهجير”.
وقالت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر في تصريحات لمجموعة “فونكه” الألمانية الإعلامية: “هذا يعيد بصورة لا إرادية ذكريات لمؤتمر فانزيه المفزع”، مضيفة أنها لا تريد أن تساوي بين الإثنين، “لكن ما يختبئ وراء مصطلحات تبدو غير ضارة مثل ‘إعادة التهجير’ هو تصور عن طرد وترحيل أشخاص بشكل جماعي بسبب أصلهم العرقي أو موقفهم السياسي”.

وفي مؤتمر فانزيه الذي عُقد في 20 يناير 1942، ناقش مسؤولون نازيون رفيعو المستوى القتل الممنهج لليهود الأوروبيين. ويعتبر محضر الاجتماع المكون من 15 صفحة، والذي استمر من 60 إلى 90 دقيقة فقط، إحدى الوثائق الرسمية القليلة الباقية التي تظهر المُخطِطين الرئيسيين للمحرقة (الهولوكوست) في حالة تورط فعلي.
والأمر اللافت في محضر الاجتماع هو استخدام مصطلحات بيروقراطية بصورة تمويهية خلال مناقشة الإبادة الجماعية التي سعوا لتنفيذها: فمصطلحات مثل “الإخلاء”، و”التقليص الطبيعي”، و”التعامل وفقا لذلك”، و”إمكانيات الحل” كلها تعني القتل. وقد أعاد مصطلح “إعادة التهجير” الذي تردد في الاجتماع الأخير لليمين المتطرف للأذهان تلك المصطلحات.
وفي الوقت نفسه تسبب تصور المتطرفين اليمينيين المريب عن إمكانية ترحيل ملايين الأشخاص من ألمانيا حال استيلائهم على السلطة، في إطلاق سلسلة كاملة من مقاطع الفيديو الساخرة التي يُجرى مشاركتها حاليا على الشبكات الاجتماعية.
على سبيل المثال صورت المؤثرة الألمانية فارو نفسها وهي تضع مساحيق التجميل وتطلب من حزب البديل من أجل ألمانيا بلهجة ثرثارة أن يحدد خطط الترحيل في أقرب وقت ممكن.
من جانبه أوصى صانع المحتوى تاهسيم في مقطع فيديو على “إنستغرام” بملاذات يمكن الاختباء فيها عند بدء حملات الترحيل، وجاء في إحدى توصياته: انضم ببساطة إلى منظمة ‘الشباب البديل’ التابعة لحزب البديل من أجل ألمانيا، حينها لن يشكك أحد فيك. يظهر تاهسيم في الفيديو وهو يجري اتصالا بالمكتب الاتحادي لحزب البديل من أجل ألمانيا”، ويسأل: “وهل يمكنني الانضمام إذا كانت لدي خلفية مهاجرة؟”.
هل كانت المظاهرات الأخيرة مجرد فورة قصيرة أم أنها حركة مضادة ديمقراطية واسعة النطاق؟ يقول الباحث تسيك: “إنها ليست بعد حركة بالمعنى المعتاد، لكنها حركة مضادة واضحة ضد الاتجاه التصاعدي لحزب البديل من أجل ألمانيا ومواصلة اختراقه للبرلمانات والثقافة والحياة اليومية.. لكي تحدث حركة حقيقية يجب أن تظهر شبكات وأنشطة إضافية. سيتعين علينا أن ننتظر ونرى. لكن بغض النظر عن التطورات التي قد تؤول منها، فهي في الوقت الحالي حركة مشتركة مهمة تضم جهات فاعلة قديمة وجديدة، إنها تحالف واسع من مجموعات تضم أوساطا اقتصادية وسياسية والمجتمع المدني. وهذا يدل على أن الديمقراطية لها قوى متماسكة وأن الأغلبية لا تريد أي تحول آخر نحو اليمين”.
وبالنسبة إلى بونيتا المولودة في جنوب أفريقيا، فمن الواضح أيضا أن مظاهرة عطلة نهاية الأسبوع هذه ليست سوى البداية، حيث تقول: “عندما نقول إننا قمنا بثلاث مظاهرات، لكننا سنجلس في المنزل مرة أخرى، فلن يكون هذا معقولا… أعتقد أنه يتعين علينا أن نظهر باستمرار أننا ضد ذلك. لا يمكن أن يكون هناك عودة إلى الوراء”.