من يخفف عنا وحدتنا؟

مساعدة شخص ما على تجاوز مصاعب الحياة هي نقطة بداية الحضارة؛ الحضارة تآزر ومساعدة اجتماعية.
الجمعة 2024/01/19
ماذا لو كانت عالمة الأنثروبولوجيا حاضرة بيننا اليوم؟

لم تتوقع الطالبة، التي سألت عالمة الأنثروبولوجيا الأميركية المثيرة للجدل مارغريت ميد عما تعتبره العالمة أُولى علامات الحضارة في تاريخ البشرية، الجواب الذي قدمته ميد، كما لم يتوقعه أيضا أي أحد من الطلاب الموجودين على مدرج الجامعة.

مارغريت ميد التي توفيت عام 1978 تاركة وراءها العشرات من الكتب والأبحاث، وخلدت الحكومة الأميركية ذكراها بطابع بريدي عليه صورتها، مازالت بعد نصف قرن من وفاتها تثير الجدل نفسه كلما ذُكر اسمها، خاصة في صفوف المحافظين.

لم تذكر ميد الأداة الحجرية التي طالما اعتبرها علماء الأنثروبولوجيا أولى علامات الحضارة في تاريخ البشر، ولم تذكر الأواني الفخارية وأدوات الصيد ورسوم الكهوف. كان ردها صادما ومخالفا لجميع التوقعات: “أولى علامات الحضارة في الثقافات القديمة هي عظام لشخص أصيب بكسر في عظم الفخذ، وشفي منه واستمر في الحياة”.

كان على ميد أن تشرح أكثر لتزيل علامات الدهشة والاستفسار التي ارتسمت على وجوه الطلاب:

في الغابة والبرية لا ينجو أي حيوان كسرت ساقه. إذا كسرت رجلك، لن تكون أمامك فرصة للنجاة، سوف تموت لا مفر من ذلك، لسبب بسيط؛ هو أنك لن تتمكن من الهرب من الخطر المحدق بك، أو الذهاب إلى النهر لشرب الماء، أو البحث عن الطعام، وفوق كل ذلك ستصبح فريسة سهلة للحيوانات المفترسة.

عظم الفخذ المكسور الذي وجدناه، وكانت قد تمت معالجته، دليل على أن شخصًا ما آخر استغرق وقتًا للبقاء مع المصاب وحمايته والاعتناء به إلى أن قوي وتعافى.

مختصر الكلام: مساعدة شخص ما على تجاوز مصاعب الحياة هي نقطة بداية الحضارة؛ الحضارة تآزر ومساعدة اجتماعية.

ماذا لو كانت عالمة الأنثروبولوجيا حاضرة بيننا اليوم، ووجهنا إليها سؤالا آخر: ما هي أولى علامات أفول الحضارة البشرية؟ ماذا سنتوقع ردا على هذا السؤال؟

بالطبع ستكون العلامة التي يفكر فيها جميعنا فورا هي زيادة معدل الكربون في الجو، أو التلوث البيئي، أو العثور على مواد بلاستيكية متجمعة في أنسجة كائن بشري.

أما من امتلك خيالا خصبا بيننا، فسيتوقع أن يكون الجواب هو الذكاء الاصطناعي التوليدي وخروجه عن سيطرة البشر.

في النهاية لن يتوقع أي منا الجواب الذي كانت مارغريت ميد ستقدمه. وكما كان جوابها عن أولى علامات الحضارة البشرية صادما، لن يقل جوابها عن سبب أفول الحضارة البشرية غرابة: أولى علامات أفول الحضارة هي بقايا شخص أصيب بكسر في الفخذ، وبقي حبيس منزله إلى أن فارق الحياة.

ولإزالة الغموض ستتابع ميد شرحها قائلة: في المدينة لا ينجو إنسان كسرت ساقه، إذا كسرت ساقك سوف تموت لا مفر من ذلك، لن تتمكن من شراء الطعام أو الدواء، وقد تجد صعوبة في الوصول إلى الماء، وفوق ذلك قد تتعرض للسرقة ويُعتدى عليك بسلاح حاد أو سلاح ناري.

عدم وجود أحد إلى جانبك يقدم لك يد العون ويساعدك في محنتك هو نقطة النهاية.

صحيح أننا ألقينا هذه المهمة على عاتق الدولة وأجهزتها من حماية مدنية وإسعاف وأمن، قبل أن نوصد أبواب منازلنا، لكن نسينا ما هو أكثر أهمية من ذلك؛ نسينا من يخفف عنا وحدتنا؟

18