كل شيء مسموح به.. إلّا الاقتصاد

لم تنتظر الولايات المتحدة طويلا لتشن ضربتها “التأديبية” على الحوثيين في اليمن، بعد استهدافهم سفنا تجارية في البحر الأحمر “تضامنا” مع أهالي غزة الذين يتعرضون لحرب عدوانية وحشية تشنها إسرائيل.
الضربات التي شنت بمشاركة بريطانية رسالة إلى إيران، من مصلحة الجمهورية الإسلامية فهم محتواها سريعا والتصرف بناء على ذلك. الرسالة التي جاءت مقتضبة ولكنها قابلة للتوسع والاستفاضة، حملت كلمتين: “إلّا الاقتصاد”.
لا بأس من التظاهر بعدم فهم الرسالة، سواء من حكام طهران أو من وكلائهم في اليمن. ولكن ما هو مؤكد أن الولايات المتحدة وحلفاءها سيتابعون إيران عن كثب ليتأكدوا من أن الرسالة وصلت إليهم.
واشنطن كانت لتغض الطرف عن هجمات يشنها وكلاء إيران من لبنان أو من العراق ضد إسرائيل. بل على العكس، ضربات مثل هذه قد تخدم حكومة إسرائيل التي ستسارع لتوظيفها غطاء يخفي جرائمها، وتتخذها مبررا للاستمرار في عدوانها على الشعب الفلسطيني في غزة وفي الضفة.
الولايات المتحدة لم تتحرك في البحر الأحمر دفاعا عن أمن إسرائيل، لو كان الحوثيون على الحدود مع إسرائيل، لما انشغلت واشنطن بأمرهم. من مصلحة إيران ومن مصلحة المنطقة، أن يصدر عنها ما يفيد أنها تلقت الرسالة
أما أن يهدد أهم ممر بحري في العالم، فهذا أمر آخر وخط أحمر لا يمكن السكوت عنه.
الأهمية التجارية لمضيق باب المندب تكمن في كونه مكملًا لرحلة المرور من قناة السويس، ودون استخدام باب المندب تفقد قناة السويس ميزتها، والتي تتجلى في اختصار المسافة ووقت الإبحار، وبالتالي اختزال تكاليف الوقود والنقل.
حتى الآن لم تجر مراجعة شاملة للخسائر المترتبة على إعاقة الحركة التجارية عبر مضيق باب المندب، فالأمر متوقف على استمرار تهديدات الحوثي. ولكن، يكفي أن نعلم أن النفط والغاز اللذين تنتجهما دول الخليج يمران من قناة السويس وباب المندب إلى آسيا وأوروبا، وأن البديل عن هذا الممر هو الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح جنوب القارة الأفريقية، وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع تكلفة النقل. ومعلوم أن مرور السفن عبر قناة السويس يوفر فترة زمنية تتراوح ما بين 9 أيام وأسبوعين.
أكثر من 10 في المئة من إجمالي الشحنات البحرية، ونحو ثلث تجارة الحاويات عالميا يمر عبر هذا المسار، وعلى الرغم من أن الناقلات التي تحمل إمدادات النفط والوقود إلى أوروبا تواصل المرور عبر قناة السويس، تحوّل أغلب سفن الحاويات الناقلة للبضائع مسارها لتدور حول أفريقيا، وهو ما يضع أعباء مالية إضافية على ملّاك السفن بسبب الزيادة في استهلاك الوقود تصل إلى مليوني دولار لكل رحلة ذهابا وإيابا، وكان طبيعيا أن يقفز سعر الشحن من آسيا إلى أوروبا لأكثر من مثلي ما كان عليه في عام 2023.
زيادة على ذلك، هجمات الحوثي على السفن جاءت في وقت تعاني فيه شركات النقل البحري العملاقة التي تتعامل مع 90 في المئة من حجم التجارة العالمية بظروف صعبة ناجمة عن الحروب وحالات الجفاف التي تؤثر على ممرات رئيسية مثل قناة بنما.
هل كانت طهران تجهل كل تلك التفاصيل وفي حاجة إلى من يذكرها بها، ويذكرها أن اللعب مع الكبار مسموح به طالما لم يتعرض الاقتصاد للصدمات؟
عدم إكمال الولايات المتحدة للمهام التي تبدأ بها، فهم خطأ من قبل حكام طهران. أيّ مهمة لم تكتمل كان مخططا لها ألاّ تكتمل.
وبينما تؤكد واشنطن أن طهران “ضالعة بعمق” في هجمات الحوثيين على السفن، تصر إيران، التي لا تنكر دعمها للحوثيين، على نفي ذلك، وتؤكد على أن من واجبها دعم حركات المقاومة. وبالطبع لا تنسى أن تشدد على أن ما تسميه بـ”حركات المقاومة”، مستقلة في رأيها وقرارها وتحركاتها عن طهران. وتريدنا أن نصدق كل ذلك.
قدرة إيران لا تتجلى بالكذب، بل بالإنكار، وعدم الاعتراف بأيّ مسؤولية عن عمل يرتكبه وكلاؤها في المنطقة. لذلك لن تنتظر واشنطن من طهران سوى الاستمرار بالإنكار، وستكتفي بمراقبة الأفعال الصادرة عنها.
ليس مهما أن تعترف طهران بمسؤوليتها ولو من بعيد عن الهجمات، المهم أن يصدر عنها ما يفيد أنها استلمت الرسالة وستعمل وفقا لها. غالبا، ستترك الحوثي يقوم بمغامرة محدودة، أو تستعين بوكلائها في منطقة أخرى بعيدا عن باب المندب للقيام بعمل استعراضي.
لأول مرة تختبر إيران مدى جدية واشنطن في التعامل معها، رغم أنها لم تستهدف بالضربات التي شنت ضد الحوثي مباشرة. فكل ما سبق كان تمثيلية من إخراج وتأليف الولايات المتحدة، سواء كان ذلك في العراق أو لبنان أو اليمن أو سوريا، وفي أيّ مكان آخر تحاول أن تتمدد فيه تحت أيّ ذريعة.
عدم إكمال الولايات المتحدة للمهام التي تبدأ بها، فهم خطأ من قبل حكام طهران. أيّ مهمة لم تكتمل كان مخططا لها ألاّ تكتمل.
هناك مهمة لن تتردد الولايات المتحدة ولو دقيقة واحدة في إكمالها حتى النهاية.. أن تهدد إيران أمنها مباشرة، أو أن تهدد أمنها الاقتصادي.
لم تتحرك الولايات المتحدة في البحر الأحمر دفاعا عن أمن إسرائيل، لو كان الحوثيون على الحدود مع إسرائيل، لما انشغلت واشنطن بأمرهم. من مصلحة إيران ومن مصلحة المنطقة، أن يصدر عنها ما يفيد أنها تلقت الرسالة.