رسالة مجهولة المصدر

نحن في عصر نتبادل فيه الرسائل عبر الهاتف الذكي مستخدمين البريد الإلكتروني وواتساب ومسنجر وسكايب.
الجمعة 2023/12/29
كل الرسائل لك أستاذ علي

خلال أربع سنوات تنقلت خلالها بين أربعة عناوين لم أتلق أيّ رسالة يحملها لي ساعي البريد. ولأن الرسائل غالبا ما تحمل أخبارا سيئة أو فواتير مستحقة الدفع، لم يسبب الأمر لي أيّ إزعاج. بل أستطيع القول إنني سعيد بذلك.. من يريد أن يمد يده إلى جيب سرواله ليدفع الفواتير؟

لذلك، كانت مفاجأة لي عندما رأيت رسالة مدسوسة من تحت الباب الخارجي للشقة التي انتقلت إليها حديثا. رفعتها عن الأرض بتردّد، وكنت آمل أن يكون هناك خطأ بالعنوان، وأن تكون الرسالة موجهة إلى شخص آخر غيري.

كان اسمي مكتوبا على المغلف بوضوح. لم يكن هناك اسم المرسل. وهو ما أثار مخاوفي. رميت المغلف على طاولة مكتبي، وذهبت أحضّر لنفسي كوب قهوة عسى أن يحسّن مزاجي، ويهدّئ من اضطرابي.

ارتشفت القهوة دون أن أشعر بطعمها، ورحت أعبث بمفاتيح الكمبيوتر أتنقل بين الأخبار محاولا تجاهل الرسالة التي بدت لي غامضة ومثيرة للريبة.

نحن في عصر نتبادل فيه الرسائل عبر الهاتف الذكي مستخدمين البريد الإلكتروني وواتساب ومسنجر وسكايب.. مضى وقت طويل لم ألمس فيه الورق، ولم أفتح رسالة حقيقية تفوح منها رائحة الصمغ.

باءت محاولاتي التي بذلتها لتجاهل الرسالة القابعة على طرف الطاولة تنظر إليّ بتحد، بالفشل.

وأخيرا، حسمت أمري، عليّ أن أتصرف كرجل عاقل وأبعد عن ذهني المخاوف. مددت يدي المرتجفة إلى الرسالة ورحت أتحسسها عسى أن أعرف محتواها.

فتحتها ببطء شديد، وسحبت منها ورقة بيضاء مطوية بعناية، ورحت أقرأ:

صديقي علي.. مضى زمن طويل لم أتواصل خلاله معك، ولا أظن أنني قادر اليوم على تذكر ملامح وجهك بدقة.. ماذا فعلت بك السنون؟

آخر عهدي بك مقاتلا عنيدا تتعامل مع العالم بعقلانية وصبر لا يخلوان من المرح. فأنت من مواليد برج الجدي، البرج الذي تتشارك فيه المواصفات مع إسحاق نيوتن، ولويس باستور، وبنجامين فرانكلين وجبران خليل جبران، وأم كلثوم، وألفيس بريسلي، ومارتن لوثر كينغ وجمال عبدالناصر، ومحمد على كلاي.. وعهدي بك مثلهم لا تقبل الهزيمة.

اليوم هو 28 ديسمبر - كانون الأول.. بعد ثلاثة أيام تتم عامك السبعين، لقد ولدت بعد انقضاء يوم 31 ديسمبر ببضع دقائق، شهدت على ذلك أصوات الأبواق والمفرقعات يطلقها البحارة من على متن السفن التجارية، على بعد خطوات من منزلكم، احتفالا بالعام الجديد.

هل نسيت القصة التي أعيدت على مسامعك مرات عديدة؟

كان على والدك أن يختار بينك وبين أمك، لأنك كنت تشكل خطرا على حياتها، فاختار مكرها كأيّ زوج عاقل أن ينقذ حياة والدتك.

رغم ذلك تشبثت بالحياة، ولم تكف الجرعة المضاعفة التي أعطيت لوالدتك لقتلك.. لقد أثبتّ منذ الدقائق الأولى التي واجهت فيها الحياة خارج رحم أمك أنك مقاتل لا تستسلم بسهولة.

تصبّب مني العرق وأنا أقرأ هذه الكلمات. من تراه يعرف هذه التفاصيل الدقيقة عنّي.. لم أخبر بها أحد.

قفزت عيناي من فوق الكلمات التي أقرأها إلى الركن الأسفل من الرسالة لأقرأ اسم المرسل.. هناك كتب بخط مرتعش..

صديقك المخلص علي قاسم.

18