توهم الهزيمة كانتصار: مرض عضال غير قابل للشفاء

على الرغم من أن الحرب التي تدور رحاها في غزة المنكوبة منذ السابع من أكتوبر لم تضع أوزارها بعد، مع ذلك بدأت تتردد على مسامعنا هذه الأيام عبارات الانتصار والنصر الإلهي من قبل حركة حماس الإخوانية – الإيرانية مقابل هزيمة إسرائيل.
الآلاف من الغزيين قضوا نحبهم نتيجة المغامرة الحمساوية والعقاب الإسرائيلي الجماعي. مئات الآلاف منهم أصبحوا بلا مأوى بعد أن تحولت مدن القطاع إلى مدن أشباح ومساكنهم إلى أنقاض وأكوام من الركام بسبب سياسة الأرض المحروقة التي تنتهجها إسرائيل في القطاع، ناهيك عن تفشي الأوبئة والأمراض العضوية والنفسية. ورغم كل ذلك، بدأت حماس بترديد نغمة الانتصارات الإلهية على غرار انتصاراتها السابقة وانتصارات حزب الله اللبناني – الإيراني في سلسلة مواجهاتهما العبثية مع إسرائيل.
والسؤال القديم – الجديد هو: إذا كان الموت والدمار والنزوح والجوع والعطش والمرض وفقدان الأرض تشكل تجليات الانتصارات، إذا ما هي تجليات الهزائم؟ ربما بالنسبة إلى حماس ومثيلاتها، فإن بقاء “المقاومة” هو في حد ذاته انتصار بصرف النظر عن الحجم والنوعية، وبصرف النظر عمّا حل ويحل بالبلاد والعباد. وهذا يعكس مدى تدني قيمة الفلسطينيين كبشر بالنسبة إلى حماس التي تعتبرهم جميعا مشاريع قتل وفناء (شهادة). وعلى هذا الأساس تواظب على المقامرة بهم في كازينوهات وليّ الفقيه الإيراني.
الاعتراف والوعي بالهزيمة وتحمّل تبعاتها والاعتذار للمحكومين والتركيز على مكامن الضعف والخلل وتعزيز نقاط القوة كلها تعكس روح المسؤولية، وتؤدي إلى معاينة أسباب الهزيمة والتفكير والتخطيط لتفادي وقوعها لاحقا
اللافت في الأمر أنه بسبب تكرار هذه النغمة المسمومة والرتيبة، ألا وهي تخيل الهزيمة كانتصار، من قبل قادة حماس وحزب الله وقبلهم صدام حسين وحافظ وبشار الأسد وجمال عبدالناصر إثر كل هزيمة كانت شعوبهم تذوق مرارتها حتى باتت صناعة عربية أصيلة، الأمر الذي حدا بالبعض أن يسمّي هذا الهراء بفن تحويل الهزيمة إلى نصر. لكن، ومن باب الإنصاف، لا يقتصر هذا المرض المركب والمزمن على النخب القيادية والسياسية والفكرية العربية فقط في المنطقة وإنما تتشارك فيه أيضا النخب الإيرانية والتركية والكردية.
فن تحويل الهزيمة إلى نصر، عبارة تنطوي على أخطاء مفاهيمية ولغوية بحيث تنسفها من الأساس. في البداية، تشبيه هذا الهراء بالفن أمر يجافي المنطق فضلا عن مجافاته للواقع. فالفن نشاط وإبداع إنساني يهدف إلى تسلية المتلقي وإراحته وإفادته. وهذا يشمل مختلف أنماط الفنون كالرسم والنحت والعمارة والموسيقى والمسرح والسينما والرقص والأدب بفروعه. بينما لا ينتج عن هذه الرطانة سوى التضليل وليّ عنق الحقيقة وقلب معالم الواقع. وهذا بدوره يدر السأم والإجهاد والأذية والحيرة والضياع. ولا يستقيم هذا الهذيان حتى من باب الكناية ولا يمكن تصنيفه ضمن التعريفات العامة للسياسة على أنها “فن الممكن، فن الخداع، فن المراوغة”. لا بل ولا يمكن تبويبه حتى تحت مسمّى فن الدعاية الغوبلزية.
عدم الاعتراف بالهزيمة وتخيلها على أنها انتصار عاهة إضافية يتفرد بها العديد من القادة والساسة، وهي تعكس الخلل النفسي والعقلي والفكري للزعماء الذين يصورون الإخفاق وكأنه نجاح. بالإضافة إلى أن عدم الإقرار بالهزيمة وتقديمها بشتى الوسائل المتاحة على أنها إنجاز تعتبر جريمة أخرى بحق الجماعة البشرية التي ابتليت بمغامرات غلاة الشعبويين من القادة وتداعياتهم وهي تضاف إلى جريمة الهزيمة نفسها.
هذا المرض النفسي والعقلي مركب ومعقد للغاية، لأن أعراضه مركبة وشديدة التعقيد والتداخل والتشابك، كما يشير إلى ذلك أيضا علم النفس السياسي. فالأعراض التي يعاني منها الزعيم المصاب بهذا الداء لا تقتصر فقط على عدم الاعتراف بالهزيمة التي يمنى بها وتكتوي بتداعياتها المجموعة البشرية التي يمثلها ويورطها عنوة في دائرة الصراعات الخاصة وليست العامة، وإنما أيضا في الاستبسال بتصوير الهزيمة وكأنها نصر وفتح. وبالتالي، المساهمة في تزييف الواقع والتاريخ معا. وهذا بدوره لا يساعد على تشخيص أمراض الواقع ومنها الهزائم وتصويرها كانتصارات. وكنتيجة لا يساعد على إيجاد العلاج المناسب لتلك الأمراض. وهذا ما يساهم في تأخير الصحوة والمصارحة والمصالحة مع الذات ومع الآخر والاعتراف والإحساس بحجم الذات الحقيقية والملموسة ودورها وليست الذات الموهومة.
والأمثلة على تفشي هذا الوباء النفسي والعقلي في مختلف بقاع الشرق الأوسط لا تعد ولا تحصى. في سنة 1948 هزمت العديد من الميليشيات اليهودية والصهيونية، التي شكلت فيما بعد نواة الجيش الإسرائيلي، سبعة جيوش عربية، وتخفيفا لوطأة الهزيمة سُمّيت بالنكبة. قدّم جمال عبدالناصر هزيمة 1956 إثر حرب السويس أو العدوان الثلاثي، على أنها انتصار. وصرح بعد انتهاء الأعمال العسكرية “لقد قمنا بتحويل دول من الدرجة الأولى إلى دول من الدرجة الثانية، ودول من الدرجة الثالثة”. وكان يقصد كلا من إنجلترا وفرنسا وإسرائيل.
بالنسبة إلى حماس، فإن بقاء "المقاومة" هو في حد ذاته انتصار بصرف النظر عن الحجم والنوعية، وبصرف النظر عمّا حل ويحل بالبلاد والعباد. وهذا يعكس مدى تدني قيمة الفلسطينيين كبشر بالنسبة إلى الحركة
علما أن إنجلترا وفرنسا قامتا باحتلال مدن قناة السويس بينما اجتاحت إسرائيل سيناء. وتشير كافة المصادر التاريخية إلى أنه لولا التدخل الأميركي والروسي معا لما انسحبت الدول الثلاث الغازية من الأراضي المصرية. في سنة 1967 منيت الجيوش المصرية والسورية والأردنية بهزيمة سريعة نكراء من قبل إسرائيل وأطلقت الأنظمة العربية على تلك الهزيمة اسم النكسة كمحاولة لتخفيف الآثار المترتبة عليها.
في سوريا أطلق حافظ الأسد وحزب البعث والإعلام الموالي على حرب أكتوبر 1973 حرب تشرين التحريرية. مع العلم أن سوريا قد خسرت 36 قرية جديدة، هذا عدا عن الفشل باستعادة الجولان. منذ 2011 لم يتوقف بشار الأسد ونظامه وإعلامه عن ترديد عبارات النصر في الحرب الأهلية السورية، مع العلم أن مئات الآلاف من السوريين قتلوا من قبل النظام السوري وروسيا وإيران وتركيا وفصائل المعارضة السورية الموالية لتركيا. هذا فضلا على ملايين النازحين واللاجئين داخليا وخارجيا. وباتت سوريا مقسمة عمليا بين عدة قوى دولية وإقليمية، ناهيك عن الخراب والدمار اللذين حلاّ بالبلاد واللذين أرجعاها عقودا من الزمن إلى الوراء.
ادعى كل من العراق وإيران النصر خلال حرب الخليج الأولى 1980 – 1988 مقابل هزيمة الطرف الآخر. في العراق سميت المعركة بـ”قادسية صدام”، أما في إيران فسميت بـ”الدفاع المقدس”. النتيجة كانت أنه لم ينتصر أيّ طرف والخسائر كانت أكثر من مليون قتيل من الجانبين وخسائر مالية تجاوزت 400 مليار دولار.
حرب تحرير الكويت أو حرب الخليج الثانية في بداية 1991 سميت من قبل نظام البعث السابق بأمّ المعارك. علما أن الحرب أدت إلى طرد الجيش العراقي من الكويت وتعرض العراق فيما بعد للحظر والعقوبات طيلة ثلاث عشرة سنة.
في 25 سبتمبر 2017 وبعد إصرار رئيس إقليم كردستان العراق الأسبق مسعود بارزاني على إجراء استفتاء حول استقلال إقليم كردستان، هاجم الجيش العراقي والميليشيات الموالية لطهران مدينة كركوك وطردوا البيشمركة الكردية منها ومن جميع المناطق المتنازع عليها وفق المادة 140 من الدستور العراقي، حتى باتت فيدرالية إقليم كردستان نفسها ومدن أربيل والسليمانية ودهوك في خطر لولا الضغط والتدخل الغربي الدبلوماسي. ومع ذلك يصر الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم في أربيل ودهوك على تسمية كافة تلك الخسائر بالإنجاز التاريخي دون أيّ اكتراث للخسائر البشرية والمادية والنفسية.
في تركيا، غالبا ما تشير أدبيات حزب العمال الكردستاني إلى سلسلة من الانتصارات الكاسحة التي حققها الحزب منذ نشوئه في 1978 وإلى الآن ضد الدولة التركية، علما أنه منذ ذلك الحين وإلى الآن لم يحرّر مترا مربعا واحدا من كردستان تركيا، لا بل أكثر من نصف الكُرد في كردستان تركيا وتركيا عموما نسوا تقريبا لغتهم الأم ويفضلون التحدث بالتركية وما زال الملايين منهم يؤيدون الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه.
العقدة لا تكمن في الهزيمة ذاتها، فالهزائم رغم قسوتها أمر وارد ومحتمل كما حال الانتصارات، وإنما في التعامي عنها وإنكارها وتقديمها على أنها نصر. فعدم الاعتراف بالهزيمة مرض خطير يتأثر بتداعياته جل المحكومين البائسين
وفي كردستان سوريا ما زالت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي تدّعي تحقيق الانتصارات والإنجازات تلو الأخرى، على الرغم من احتلال تركيا لمدن عفرين وسرى كانيه وكرى سبي، وعلى الرغم من استمرار فصول الهجرة الكردية الطوعية – القسرية إلى الخارج، والتي تتحمل الإدارة الذاتية القسم الأعظم من مسؤوليتها.
بالمقابل، يشهد التاريخ وجود زعماء وقادة قبلوا بالهزيمة واعترفوا بها في محطات معينة، حفاظاً على سلامة شعوبهم وسيادة بلدانهم، ومنهم إمبراطور اليابان هيرو هيتو الذي اعترف بالهزيمة في الحرب العالمية الثانية، ووقّع على وثيقة الاستسلام لصالح دول الحلفاء دون قيد أو شرط، حفاظا على أرواح اليابانيين بعد أن قصفت الولايات المتحدة مدينتي هيروشيما وناغازاكي بقنبلتين ذريتين أودت بحياة عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء.
لم يكترث الإمبراطور الياباني الحكيم لأصوات المتشددين في الجيش الذين دعوا الى استمرار القتال ضد الأميركان إلى آخر ياباني، ولا إلى أصحاب البلاغة اللغوية الذين تحدثوا عن عار الهزيمة ونسوا مصير الأحياء ومستقبل البلاد، وإنما اكترث فقط لصوت الحكمة الذي اقتضى الاعتراف بالهزيمة والتوقيع على وثيقة الاستسلام. لكن وبعد فترة وجيزة، وبعد أن استخلصت اليابان الدروس والعبر المناسبة من هزيمتها، بدأت بغزو أميركا وأوروبا، هذه المرة عن طريق التكنولوجيا ومنتجاتها التي فاضت بها الأسواق الغربية.
العقدة لا تكمن في الهزيمة ذاتها، فالهزائم رغم قسوتها أمر وارد ومحتمل كما حال الانتصارات، وإنما في التعامي عنها وإنكارها وتقديمها على أنها نصر. فعدم الاعتراف بالهزيمة رغم تمظهراتها الصارخة مرض خطير يتأثر بتداعياته جل المحكومين البائسين. أما تقديم الهزيمة على أنها انتصار فهذا مرض عضال غير قابل للشفاء ويكتوي بآثاره العباد والبلاد.
الهزيمة لا تعني بالضرورة أن المسعى الذي لم يكتب له النجاح غير صحيح وغير محق وغير شرعي من حيث المبدأ. ولكن ربما عديد العوامل الذاتية والموضوعية المختلفة وغير الناضجة المحيطة به ساهمت جميعا بشكل أو بآخر في إفشاله. الاعتراف والوعي بالهزيمة وتحمّل تبعاتها والاعتذار للمحكومين والتركيز على مكامن الضعف والخلل وتعزيز نقاط القوة كلها تعكس روح المسؤولية، وتؤدي إلى معاينة أسباب الهزيمة والإحاطة بها من كافة الجوانب، والتفكير والتخطيط لتفادي وقوعها لاحقا.
لكن، عدم الاعتراف بها والإصرار على تقديمها كنصر وإنجاز يزيد الطين بلة، ويشي باحتمال تكرار تجارب ومغامرات الهزيمة مرات ومرات قادمة في المستقبل. وهذا يدل على غياب الكاريزما والنضوج الفكري والسياسي وغياب الصحة النفسية والعقلية لدى الطائشين والمغامرين من الزعماء دون اكتراث للحاضر والمصير الجمعي.