العنف ضد المرأة يشوه صورة تونس

محاكمات صورية تندد بإخفاقات الدولة في التعامل مع جرائم قتل النساء.
الثلاثاء 2023/12/19
وقف العنف ضد النساء مطلب متكرر

لم تفلح ترسانة القوانين المدافعة عن حقوق المرأة في تونس في حمايتها من مختلف أشكال العنف والكراهية التي وصلت حد التقتيل. وتقيم تونس محاكمات صورية تهدف إلى كشف عجز الدولة والمؤسسات القضائية، والتشريعات التي بقيت حبرا على ورق، عن التعامل مع جرائم العنف القائمة على النوع الاجتماعي. وتطالب جمعيات نسوية بضرورة إرفاق القوانين بسياسة جزائية صارمة توقف الإفلات من العقاب.

تونس - لا يزال مقتل رفقة الشارني على يد زوجها الشرطي، يثير حالة من الحزن الدفين لدى الجمعيات النسوية في تونس على الرغم من مفارقتها للحياة منذ عام 2021.

يعكس رحيل رفقة المأساوي بالرصاص مفارقة في تونس التي تفاخر بإصدارها قوانين محررة للمرأة منذ خمسينات القرن الماضي لكنها على أرض الواقع تخفي سجلا مظلما من العنف المسلط على المرأة بأشكال مختلفة.

قبل موتها قدمت رفقة شكوى لدى السلطات الأمنية بجهة الكاف غرب البلاد بسبب تعنيف زوجها المتكرر لها، وأثبتت آثار العنف على جسدها بشهادة طبية أرفقتها في شكواها لكن الزوج الذي يعمل في جهاز الحرس الوطني بقي طليقا.

قالت السلطات إن رفقة وزوجها تصالحا ما أدى إلى إسقاط الشكوى لكن الزوج ظل محل متابعة للتحقيق في ممارسته للعنف.

نائلة الزغلامي: المجتمع المعنف لا يمكن أن يكون متوازنا وقادرا على العطاء
نائلة الزغلامي: المجتمع المعنف لا يمكن أن يكون متوازنا وقادرا على العطاء

مع ذلك نددت منظمات حقوقية بالإبقاء على الزوج في حالة سراح إلى أن نفذ جريمته بقتل زوجته بخمس رصاصات بدم بارد مستخدما سلاحه الوظيفي.

يلقي مقتل رفقة الضوء على اهتزاز الوضع القانوني والحقوقي في حماية المرأة من العنف المسلط عليها في تونس.

قالت “جمعية النساء التونسيات الديمقراطيات” إن رفقة كانت “ضحية دولة جعلت قوانينها حبرا على ورق ولم ترفق إصدارها بسياسة جزائية لتطبيقها تقتضي الحماية الفورية للضحايا وإيقاف الإفلات من العقاب”، مضيفة في شعار أطلقته بعد مقتل الشارني “لا عزاء للنساء والعنف يقتلهن كالوباء”.

بعد أكثر من عامين يحضر أفراد من عائلة رفقة المحاكمة الرمزية السنوية التي نظمتها “جمعية النساء التونسيات الديمقراطيات” وعدد آخر من المنظمات النسوية بمشاركة محامين وممثلين عن القطاع الثقافي.

قالت رئيسة الجمعية نائلة الزغلامي لوكالة الأنباء الألمانية “المجتمع المعنف لا يمكن أن يكون متوازنا وقادرا على العطاء ولا يمكن أن يقدم بيئة نفسية ملائمة للأطفال الذين يعيشون وسط العنف والتوتر”.

وتابعت الزغلامي “اليوم لدينا في الجمعية طفلان توفيت والدتهما حرقا، وطفل آخر في سن الأربع سنوات وهو ابن رفقة الشارني. كيف سيكون مصير هؤلاء في المجتمع؟ وكيف سيعيشون مع الوصم الذي سيرافقهم؟ لهذا فإن المحكمة الصورية اليوم لن تؤسس لقانون جديد وإنما لعقلية وثقافة جديدة من أجل تغيير الثقافة الأبوية الذكورية ومن أجل المساواة”.

وقدمت زهرة أيضا لتحضر المحاكمة الرمزية لكنها تأمل في نفس الوقت أن تطبق العدالة كاملة في مقتل ابنتها وهي حامل على يد زوجها قبل 14 عاما.

وتروي المرأة السبعينية بألم “كانت ابنتي تشعر دائما بأنها ستغادر هذا العالم على يد زوجها. كانت تشكو دائما من عنفه. ماتت وتركت ابنين هما في كفالتي. يسكننا الحزن من أجلها حتى اليوم”.

وتضيف زهرة باكية وبصوت متقطع “حتى اليوم لم أحصل على حق ابنتي. مات أبوها حرقة من أجلها”.

تقول جمعية النساء الديمقراطيات إن الهدف من المحاكمات الصورية هو “استعادة إنسانية هؤلاء النساء وتكريما لذكراهن ولعائلاتهن وتنديدا بإخفافات الدولة والنظام القضائي في التعامل مع قضايا العنف القائم على النوع الاجتماعي وتقتيل النساء”.

وقالت رئيسة المحكمة، المحامية والناشطة هالة بن سالم “نسعى من خلال هذه المحاكاة لقضايا تقتيل النساء إلى إعطاء نظرة حقوقية نسوية لجرائم تصنف كأعلى جرائم كراهية تسلط أقصى حالات العنف على النساء”.

تطورت جرائم قتل النساء بشكل لافت في تونس. ففي عام 2018 عرفت تونس ست جرائم قتل موثقة ضد النساء على أيدي أزواجهن وخلال النصف الأول من عام 2023 قفز الرقم إلى 25 جريمة قتل.

العنف ضد المرأة مستمر

ويصف جلول المثلوثي الذي حضر مع زوجته المحاكمة الرمزية، ما حصل لأخته منذ نحو أربع سنوات بـ”المروع”.

ويروي بدوره لوكالة الأنباء الألمانية قائلا “كانت هناك خصومات باستمرار بين أختي وزوجها، إلى أن قرر أن ينهي حياتها بطريقة بشعة. أرسل أبناءهما الثلاثة إلى الجيران ثم أجهز عليها بضربات قاتلة على الرأس مستخدما مطرقة”.

ويقول جلول إنه “لا يطلب اليوم سوى القصاص لأخته وهو يثق في القضاء”.

وفي تقرير حكومي فإن 71 في المئة من جرائم القتل يقف وراءها الزوج. وتقع أغلب الجرائم في المنزل في جنح الظلام وساعات الفجر.

وتشير أرقام قدمتها جمعية التونسيات الديمقراطيات إلى أن 34 في المئة من الضحايا النساء في جرائم التقتيل تتراوح أعمارهن بين 19 و30 عاما.

ولا يتضمن هذا الجرد جرائم العنف الجنسي، والنساء ضحايا الفقر، والعاملات في المزارع والحظائر بأجور زهيدة ودون ضمانات اجتماعية، حيث يقدر أعدادهن في هذا القطاع الهش بأكثر من نصف مليون.

وعلى مدار سنوات كانت الطرقات في الولايات الداخلية الفقيرة بتونس مسرحا لحوادث مرور مأساوية تسببت في وفاة العشرات من عاملات القطاع الزراعي بسبب وسائل النقل المتدنية وغير الآمنة التي يستخدمها أرباب العمل والوسطاء السماسرة في نقل العاملات.

وتدرج هذه الحوادث وظروف العمل القاسية لعاملات القطاع الزراعي ضمن العنف المسلط على النساء.

كانت السلطات التشريعية في تونس أصدرت بالفعل قانون رقم 58 عام 2017 بهدف القضاء على العنف المسلط ضد المرأة بجميع أنواعه، وأعقبته بقوانين أخرى تكميلية غير أن إنفاذ القانون يمثل معضلة رئيسية في إنصاف الضحايا وضمان الحماية للنساء.

ويطالب المجتمع المدني بضمانات أكبر لملاحقة الجناة ومكافحة ظاهرة الإفلات من العقاب.

حوادث المرور القاتلة والظروف القاسية التي تشتغل فيها عاملات الزراعة تندرج ضمن العنف المسلط على المرأة
حوادث المرور القاتلة والظروف القاسية التي تشتغل فيها عاملات الزراعة تندرج ضمن العنف المسلط على المرأة

وتقول الناشطة نائلة الزغلامي “نطالب بقانون يحدد عقوبة جريمة تقتيل النساء بوضوح لأن الكثير من القتلة يفلتون من العقاب بسبب الثغرات القانونية. نطالب بالسجن مدى الحياة لأننا نرفض في نفس الوقت عقوبة الإعدام”.

وتابعت الزغلامي “السجن مدى الحياة يمكن أن يشفي الغليل عندما تلغى حياة امرأة في مقتبل العمر ويتسبب القاتل في تشريد أبنائها”.

وكشفت وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في تونس عن أحدث مؤشراتها المتعلقة بإشعارات العنف ضد النساء، مشيرة إلى أن قرابة نصف الضحايا عاطلات عن العمل أو يعانين من أوضاع اجتماعية صعبة.

وقالت الوزارة إن خلال شهر يوليو الماضي فقط، تلقى الخط الأخضر 733 اتصالا للتبليغ، منها 216 مكالمة تتعلق بإشعارات حول العنف ضد المرأة و517 مكالمة من أجل طلب إرشادات قانونية.

وفي تفاصيل الإجراءات المتخذة في التعامل مع المشتكيات، أعلنت الوزارة عن توجيه 82 في المئة من النساء ضحايا العنف إلى مؤسسات أمنية (160 حالة)، و41 في المئة إلى المندوبيات الجهويّة للمتابعة، و37 في المئة إلى مؤسسات قضائية (73 حالة)، و28 في المئة إلى مؤسسات صحية (30 حالة)، و25 في المئة من النساء ضحايا العنف تم توجيه أطفالهنّ إلى مكتب مندوب حماية الطفولة (49 حالة).

وأوضحت الوزارة، وفق الإحصائيات ذاتها، أن “نسبة النساء ضحايا العنف المتصلات بالخط، وهن عاطلات عن العمل وفي وضعية هشاشة، تبلغ 46 في المئة أي 100 حالة، تم توجيههن وإرشادهن إلى برنامج ‘صامدة’ للتمكين الاقتصادي للنساء ضحايا العنف”.

وأفادت الوزارة بأن الإحصائيات الأخيرة تبين “تفاقم ظاهرة العنف ضد النساء وارتفاع منسوبها على الخط الأخضر للتبليغ عن العنف، حيث بلغ عدد الإشعارات الواردة عليه 7500 إشعار، ونسبة العنف الزوجي 76 في المئة خلال سنة 2022”.

وتقول رئيسة منظمة المرأة والريادة بتونس سناء فتح الله غنيمة إن “الهشاشة الاجتماعية تساهم بشكل كبير في ارتفاع نسب العنف”، مشيرة إلى أن “النساء ذوات الدخل الضعيف أو في وضعية اجتماعية صعبة أكثر عرضة للعنف”.

16