للفقر لذات كلذات الغنى

لا يتحدث عن لذّات الفقر إلا من بدأ حياته فقيرا، ثم اجتهد أو حالفه الحظ لينضم إلى نادي الأثرياء، أو متوسطي الحال.
ولن يردد مقولة “للفقر لذّات كلذات الغنى” فقير ومحتاج، ولن يقولها شخص ولد وفي فمه ملعقة من ذهب. فالأول غارق بفقره، والثاني لم يتح له أن يختبر عيشة الفقراء.
ولكن، هل حقا أن للفقر لذاته؟ وإن كانت للفقر لذاته فما هي هذه اللذات؟
لنسمع الجواب من أمير شعراء العامية وهرم الزجل بيرم التونسي، في كلمات أغنية لحنها محمد عبدالوهاب وغنتها أسمهان قبل 84 عاما، يقول بيرم:
“محلاها عيشة الفلاح متطمن قلبه مرتاح.. يتمرغ على أرض مراح والخيمة الزرقا ساتراه.. واللقمة يأكلها ومبسوط، اكمنه واكلها بشقاه.. الشكوى عمره ما قالهاش إن لاقى وإلا ما لاقاش”.
هذه النظرة الرومانسية التي تجمل عيشة الفلاح، ظهرت أيضا في كلمات أغنية سيد درويش “الحلوة دي” التي ألفها بديع خيري، رغم ما حملته من سخرية مبطنة:
“الحلوة دي قامت تعجن في البدرية، والديك بيدن (يؤذن) كوكو كوكو في الفجرية، يلا بينا على باب الله يا صنايعيه، يجعل صباحك صباح الخير يا أسطى عطية، ما تشد حيلك يا بو صلاح، اضربها صرمه تعيش مرتاح”.
الأغنية نفسها غنتها فيما بعد فيروز.
هناك بالطبع من لا يتفق مع هذه النظرة الرومانسية التي يحاول أصحابها تجميل الفقر، ويعتبر أن هذا النوع من القصائد يقدم خدمة مجانية للحكومات، فهي تخدر الفقراء وتضمن إذعانهم. وفي مقدمة هؤلاء الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري في قصيدته الساخرة “تنويمة الجياع” ومطلعها:
نامي جياعَ الشَّعبِ نامي حرسَتْكِ آلِهةُ الطَّعامِ.. نامي فإِن لم تشبَعي مِن يقظةٍ فمِنَ المنام.. نامي على زُبدِ الوعود يُدافُ في عسَلٍ الكلام.. نامي تَزُركِ عرائسُ الأحلام في جُنحِ الظلام.. تتنوَّري قرصَ الرغيف كدورةِ البدر التمام.. وتَرَيْ زرائبَكِ الفِساحَ مبلَّطاتٍ بالرُّخام.
بطبعي أميل إلى معسكر الرومانسيين، الذين ما زالوا يستمعون إلى قصائد بيرم التونسي وألحان سيد درويش، وأفضل أن أضرب الحياة “صرمه” لأعيش مرتاحا، ولا أتوقف عن إقناع نفسي بأن للفقر لذّات تفوق لذات الغنى، وأن أفضل ما يمكن للمرء أن يتزود به هو القناعة.
كان من الممكن لخبر نشر مؤخرا يتحدث عن بيع أغلى زجاجة ويسكي في العالم ضمن مزاد في لندن بسعر خيالي بلغ 2.7 مليون دولار، أن ينقلني إلى معسكر الجواهري. ولكن لم يحدث ذلك.
في الحقيقة أشفقت على الشاري الذي دفع هذا الثمن الخيالي لزجاجة ويسكي من عام 1926 لسببين: الأول، أنه لن يتذوقها بل سيبقي عليها محفوظة بأمان تحت حراسة مشددة.
والسبب الثاني، أن الشاري سيبقى حريصا على أن لا يحطم رقمه القياسي الذي دفعه رقم آخر جديد.
ماذا سأخسر إن لم أتذوق ويسكي “ذي ماكالان” وإلى جانبه أنواع الكافيار الفاخر، بينما باستطاعتي أن أحتسي شراب البوخا التونسي وأتناول طبق الكفتاجي القيرواني الحار مع قطع من خبز الطابونة الخارج لتوه من أفران الطين.
لا أخفي عليكم، أفضل الخيار الثاني.. خيار لذّات الفقر.