تذبذب العلاقة بين واشنطن والقاهرة قبل الحرب وبعدها

نتائج الحرب على غزة ترسم شكل العلاقة سلبا أم إيجابا.
الأحد 2023/11/12
تقارب وتباعد بين القاهرة وواشنطن

مصر تعاملت بحذر مع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، وزاد هذا الحذر مع حرب غزة، ففي الوقت الذي كانت فيه واشنطن تقف بقوة إلى جانب إسرائيل كانت القاهرة تحصر دفاعها عن مصالح أمنها القومي في عدم التوطين في سيناء ورفض أي دور في إدارة غزة ما بعد حماس.

القاهرة - لم تغير الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة شكل العلاقات السياسية بين الولايات المتحدة ومصر وتحويلها من التذبذب الذي صاحبها السنوات الماضية إلى الاستقرار والتوصل إلى صيغة متينة تحافظ عليه فترة طويلة، وربما زادت حرب غزة من معالم المراوحة بين الجانبين، حيث يتبنى كل طرف رؤية بعيدة عن الآخر في التعامل معها دون الدخول في نفق مظلم يكسر العلاقة التاريخية.

قرأ النظام المصري مبكرا السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وأدخل تعديلات على ما كانت عليه في زمن رؤساء سابقين حتى وصلت إلى صيغة تتسم بقدر من الدفء والهدوء أو البرودة والتوتر، وتحاشى الصدام الذي خيّم عليها في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، أو ما يمكن وصفه بـ”الاستسلام” في عهد خلفه أنور السادات الذي رأى أن 99 في المئة من أوراق اللعب في المنطقة بأيدي الولايات المتحدة.

استفاد نظام الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي من عيوب تجربة الرئيس الراحل حسني مبارك في تعامله مع الولايات المتحدة، والتي سيطر عليها تقارب محفوف بالخطر، أدى إلى تضحية واشنطن به عندما استنفد الرجل المهام التي كانت تريدها منه في أواخر أيامه، وبدأ يضج همسا من مواقفها المخجلة معه.

السيسي رسم خطوطا طولية وعرضية في علاقته بواشنطن، تتجنب في مجملها الاشتباك، لكنها لا تسير في طريق واحد
◙ السيسي رسم خطوطا طولية وعرضية في علاقته بواشنطن، تتجنب في مجملها الاشتباك، لكنها لا تسير في طريق واحد

رسم السيسي خطوطا طولية وعرضية في علاقته بالولايات المتحدة، تتجنب في مجملها الاشتباك، لكنها لا تسير في طريق واحد، وتحسبت تصوراته من الدخول في صدام أو القبول باستسلام أو تلبية الأهداف الأميركية كاملة، ووضع صيغة خاصة تبعده عن التبعية وتنأى به عن التطابق في الرؤى السياسية والعسكرية، ولازمه هاجس بأن واشنطن يمكن أن تتربص به في أي وقت وعليه أن يكون حذرا للغاية.

كشف العدوان الإسرائيلي على غزة بعدا في دواعي الحذر المصري في التوجهات الخارجية، وأسباب الاحتفاظ بمسافة عن الولايات المتحدة بعد أن تبنت الأخيرة غالبية، إن لم يكن كل، السرديات الإسرائيلية في الحرب والأعمال العسكرية وآليات دخول المساعدات، والخطط التي تنطوي عليها لتحديد مصير ومستقبل غزة، بما فيها عدم معارضة التوجه نحو توطين سكان القطاع في سيناء، ومحاولة التسويق لإسناد مسؤولية الإشراف عليه إلى الإدارة المصرية مرة أخرى.

وصلت الرسائل المصرية إلى من يهمهم الأمر في الولايات المتحدة، لكنها أبت الاستماع إليها أو تقبلها إلى أن جاءت زيارة مدير المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) وليام بيرنز إلى القاهرة قبل أيام، وحاول حلحلة التقديرات المصرية بالصورة التي تقترب من رؤية إسرائيل وحساباتها في المنطقة، إلا أنه أخفق في هذه المهمة دون أن يحدث شرخا في العلاقات بين البلدين.

عززت نتائج زيارة بيرنز إلى القاهرة ولقائه بالرئيس السيسي المعلومات التي ترددت قبل العدوان الإسرائيلي على غزة وقوامها أن كل طرف يحاول توظيف المنطقة الرمادية في العلاقات المشتركة لتحويلها إلى منطقة خضراء بدلا من أن تصبح حمراء وتقود إلى نتائج لن يستفيد منها كلاهما، بل يمكن تحمل ارتدادات إقليمية تضر بمصالحهما.

تحصر مصر دفاعها عن مصالح أمنها القومي في عدم التوطين في سيناء ورفض تصفية القضية الفلسطينية ووقف النار والبحث عن حل سياسي، وكل ما تبقى تفاصيل تختلف أو تتفق فيها مع واشنطن وفقا لسياقاتها الإقليمية، مع حرص مشترك على الحفاظ على حد جيد من التفاهم، فواشنطن لن تستطيع التخلي عن علاقاتها العسكرية مع القاهرة، والثانية غير مستعدة لوصول الأمر إلى طريق مسدود معها.

تظل المراوحة من السمات الواضحة في التفاعلات الدولية بسبب تعدد الصراعات الإقليمية التي تثير انقسامات، ولا توجد مفاهيم حاسمة يمكن تبنيها، فالكثير منها له وجوه عدة يمكن النظر إليها، وربما تكون الحرب على غزة صراعا نادرا اصطحب مواقف صارمة من قبل الولايات المتحدة ومصر، وبدت كلتاهما على طرفي نقيض.

يمنع تمسك كل طرف بدرجة من المرونة انسداد أفق الحوار بينهما، والذي يصعب التفريض فيه، بحكم التشابك الكبير لكل منهما مع هذا الصراع، ويمكن أن يتحول إلى فوضى إقليمية إذا انحرفت الضوابط التي وضعتها الولايات المتحدة لإيران وحلفائها، وهي تتحسب من ذلك منذ بداية الأزمة، فوصول حاملات الطائرات والغواصات وآلاف الجنود وتدفق الأسلحة على المنطقة يؤكد أن خروج الحرب عن نطاق غزة يمكن حدوثه، وهو ما لا تريده مصر التي تسعى للحفاظ على ما حققته من أمن واستقرار في الداخل.

◙ في غالبية المناوشات حول حقوق الإنسان والمساعدات الأميركية، كانت هناك إشارات تخفف من حدة دخول نطاق الأزمة

يتعامل البلدان مع التذبذب كنتيجة طبيعية لانحيازات كليهما، والتي بدت ظاهرة في عدد كبير من التفاعلات التي سبقت اندلاع الحرب على غزة، وأبرزها الموقف من الحرب الروسية على أوكرانيا، حيث اتخذت القاهرة موقفا أقرب إلى موسكو من واشنطن، لكنها لم تعلن عن تبنيها سياسات مباشرة تتحدى فيها الولايات المتحدة، وحافظت على خيط إيجابي رفيع معها من خلال توازنات تبنتها في الأمم المتحدة ولقاءات دولية عدة عصمتها من دمغها صراحة بتأييد روسيا على حساب أوكرانيا.

في عدد كبير من المحكّات الإقليمية والثنائية لم تصل العلاقة بينهما إلى مستوى الأزمة المستعصية، فمصر نسجت شبكة من العلاقات مع قوى دولية منحتها مرونة في الحركة، والولايات المتحدة لا تريد تركها لترفع مستوى هذه الشبكة فتخسرها أو تفقد التعاون معها في المنطقة على الصعيد الأمني، والذي يحافظ على ثباته منذ فترة.

في غالبية المناوشات التي جرت بينهما حول ملف حقوق الإنسان وربطه بالمساعدات العسكرية الأميركية لمصر، كانت هناك إشارات تخفف من حدة دخوله نطاق الأزمة، تأتي من جانب واشنطن على شكل تصريحات من جنرالات ومسؤولين في وزارة الدفاع يؤكدون فيها على خصوصية العلاقة، أو من مصر لا تبدي اكتراثا بأي تخفيض في قيمة المساعدات، وهو ما عصم العلاقات من الانزلاق إلى قطيعة أو خصومة تؤدي إلى مستوى قاتم لا يريده الطرفان، والعمل على تصحيح العلاقات بما يفضي إلى توطيدها ومنع اهتزازها عند مواجهة قضايا ثنائية أو إقليمية يتباعدان فيها.

أصبح التذبذب بين واشنطن والقاهرة ميزة في خضم العواصف التي تمر بها العلاقات المشتركة، وهو مؤشر على صلابة وحرص متبادل على عدم التفريط في المنسوب الذي وصلا إليه، حتى لو صاحبته تباينات نسبية، ففرص تصويبها قد تكون قريبة، بينما التفريط فيها ربما يصبح صعبا، ولذلك فنتائج الحرب على غزة يمكن أن ترسم إلى حد بعيد الصورة التي تستقر عليها العلاقات في الفترة المقبلة، إن كانت سلبا أم إيجابا.

اقرأ أيضا: 

الحرب في غزة تفاقم الضغوط على الاقتصاد المصري

4