الأماكن كلها..

ليس للأماكن نفس الوقع عند كل الناس. الأماكن التي تبدو خالية من الذكريات بالنسبة للبعض، تثير عند آخرين فيضا من المشاعر.
الجمعة 2023/11/10
أما آن لك أن تعود؟

الأماكن ليست جمادا بلا روح كما يعتقد الناس. الأماكن كائنات حية تتنفس، تكره، تحب وتنتقم. تنتقم، بإصرارها على البقاء محفورة في الذاكرة، مهما حاولنا التنصل منها. قد نظن لفترة أننا شفينا من سطوتها، لتطل علينا فجأة، تذكرنا بأدق التفاصيل.

ليس للأماكن نفس الوقع عند كل الناس. الأماكن التي تبدو خالية من الذكريات بالنسبة للبعض، تثير عند آخرين فيضا من المشاعر.

كلما ابتعدت التجربة في الزمن، حفرت الأماكن عميقا في الذاكرة، رغم عجزنا عن تذكر التفاصيل بوضوح.

هؤلاء الذين يبدون أكثر تحررا من سطوة الأماكن، هم أكثر الناس تأثرا بها، إلا أنهم حريصون على أن لا يبيحوا بمعاناتهم.

وعلى عكس ما يظن الناس، من تنقلوا هائمين في بلاد الله الواسعة، لم يحررهم بعد المسافات ومرور الزمن من سطوتها.

اسألوني أقول لكم..

بعد نصف قرن من رحيلي عن مدينة اللاذقية، ما زالت الأماكن تصر على زيارتي، إن لم يكن باليقظة، فبالمنام، تقول لي: أما آن لك أن تعود؟ ألم يمرضك الحنين للمشي في ساحة الشيخ ضاهر وتلمس جدران مدرسة عمر بن عبدالعزيز التي دخلتها لأول مرة مرتجفا كقصبة هبت عليها الريح، ملتصقا إلى جسد أمك لا تريد أن يأخذوك بعيدا عنها؟

هل ما زلت تذكر طريق العودة إلى المنزل على أطراف حي مارتقلا مرورا بشارع يوسف العظمة الذي ينحدر بشدة ليصل إلى البحر بعد أن يتقاطع مع شارع الأمريكان.

لهذا الشارع قصة يجب أن تحكى..

عام 1856 حضرت إلى مدينة اللاذقية بعثة تبشيرية أميركية، فتحت فيها مدرستين، مدرسة ابتدائية للإناث وأخرى إعدادية للذكور، وبعد هدم المدرستين، احتفظ الشارع بالاسم الذي التصق به “الأميركان”.

لا تحاول أن تكابر. تقول لي الأماكن، سرك مكشوف، السنون الخمسون لم تنسك ما كان في الماضي بستانا قبل أن يتحول إلى دير.. هل تذكر اسمه؟ نعم، بستان أبوصلاح، والدك الذي رحل باكرا. هل تذكر البناء الفرنسي في الزاوية الذي كان منزلا لعائلة والدتك؟ تحول اليوم إلى فندق.

وهل تذكر العجلاتي والحذاء والبقال.. البقال “صعلوكة” الذي يمتلئ مخزنه بما لذ وطاب من أنواع الجبن واللحوم الباردة الفاخرة، والجزار الذي كان يتنقل على عجلته المتهالكة بين محل الجزارة والجامع لرفع الأذان خمس مرات يوميا؟

هل تذكر الكازينو الذي يغتسل بماء البحر، وتطل عليه من الجهة المقابلة سينما شناتا الصيفي.

هل تذكر سبيرو والعصافيري واللاكابان وفينيسيا، حيث استمعت لأول مرة إلى موسيقى البيتلز والفيس برسلي وبول مكارتني وأريثا فرانكلين.. هنا احتسيت أول كأس من البيرة لم ينسك مرور السنوات طعمه، وهناك تناولت قنفذ البحر.

هل تذكر حديقة البطرني التي التقطت العائلة فيها أول صورة فوتوغرافية لك، كانت الحديقة يومها مليئة بالورود؟ وبمحاذاتها يمتد طريق يضيق فجأة متجها إلى المرفأ مرورا بخمارة القط الأسود التي كانت مقصدا لبحارة سفن وصيادين يطفئون فيها عطشهم.

امتدت يدي لكأس البيرة احتسيت ما تبقى فيه. تسللت إلى الفراش وكلمات أغنية “الأماكن كلها مشتاقة لك” للرائع محمد عبده تتناهى إلى مسمعي من مكان بعيد.

18