مهندسة أردنية تتفرغ لترميم مدينة السلط التراثية

عادةً ما تكون الانطلاقة صوب تحقيق هدف في الحياة عائدةً إلى موقف رسخ في المخيلة منذ الطفولة، كما هو الحال بالنسبة إلى الأردنية كريستين حنا نصر التي تخرّجت مهندسة لأنها زارت مدينة السلط في صغرها.
السلط (الأردن) - زارت كريستين حنا نصر (58 عاما) في طفولتها مدينة السلط (غرب عمّان)، المدينة التي تتميز بتنوعها الثقافي والحضاري وأبهرها الحجر الأصفر والأقواس التاريخية التي تعد طابعاً عاماً لمبانيها التراثية.
وكانت التصاميم المعمارية التي تبرز تنوع الحضارات التي مرت على مدينة السلط كالبيزنطية والرومانية والعثمانية، كفيلة بأن تجعل من حنا نصر مهندسة في ذات التخصص، وتجعل من البيوت التراثية وجهةً تجد فيها شغفها من خلال إعادة ترميمها وإحيائها من جديد. وتخرجت حنا نصر عام 1988 في تخصص الهندسة المعمارية من الجامعة الكاثوليكية بالعاصمة الأميركية واشنطن.
وعادت المهندسة إلى موطنها بعد أن عاشت متجولة لسنوات في عدد من الدول الأوروبية، ولكن حلم الطفولة كان يسافر معها إلى كل مكان، وبقي إعجابها وانبهارها بصور "العقود" المستخدمة في الأبنية القديمة مستقرّين في عقلها.
وقالت من إحدى البيوت التراثية التي تعيد ترميمها "في صغري زرت السلط، وأبهرني الحجر الأصفر والأقواس التاريخية وتنوع الحضارات التي مرت على المدينة، كالبيزنطية والرومانية والعثمانية، ولا يمكن أن ننكر التاريخ". وأضافت "أكثر ما يميز البيوت التراثية التي دخلتها وجذبت أنظاري العقود، وهي ميزة في البناء القديم وخاصة العثماني، وهو ما تشهد له الدراما التركية حيث لاحظنا بأنها متواجدة بشكل كبير في مدينة ماردين".
ومضت قائلة "هذا النمط يأسرني ويأخذني في التاريخ إلى عقود طويلة مضت، وكأنني أعيش في الماضي القديم". وأشارت "عندما عدت إلى الأردن بعد إكمال دراستي والعمل في الخارج وتوفر المال لدي وبما يتيح لي الاستثمار، كانت الوجهة صوب السلط، وخاصة إلى صورة من الماضي للعقود مازالت عالقة في ذهني".
والعقد في العمارة الإسلامية القديمة هو عبارة عن حجارة متلاصقة، تسمى كل واحدة منها فقرة، يتوسطها حجر آخر تكون مهمته التثبيت، ويطلق عليه القفل. وكانت العقود تهدف إلى حمل الأسقف والقباب والنوافذ، واستخدامها في البناء يضفي على المكان لمسة جمالية، خاصة عندما تضاف إليها الزخرفة والنقوش.
وأوضحت حنا نصر "كانت البداية بعدد من البيوت التراثية في السلط عام 2018 (..) وأنا الآن لدي 3 بيوت تراثية حيث أنهيت ترميم الأول بصورة جميلة جداً تحفظ له لمساته وعراقة التاريخ فيه، دون أن أطمس منها شيئا، لأن القيمة في تلك اللمسات". وأكدت أن "الغاية بصراحة كانت عشق المكان، وواجبي كمهندسة أردنية تعشق تاريخ بلادها أن أحافظ على هذه الأنماط البنائية".
وزادت "العمارة والفن لهما رسالة حضارية ذات قيمة عالية في مجتمعنا، ومهما اختلفنا فالحضارة تجمعنا، والمملكة الأردنية الهاشمية على مدى 100 عام من تأسيسها نجحت في الحفاظ على الأماكن التراثية والمعمارية؛ لأنها شاهد على عمق التاريخ وتنوع الحضارات والثقافات التي مرت عليها، ومن ضمنها العثمانية".
وتابعت “استغرق مني ترميم هذا البيت نحو عامين، وحالياً بدأت العمل على البيتين الآخرين، فأنا أعشق الترميم والأشياء القديمة، وبنفس الوقت أسعى للاحتفاظ بكل موجودات المكان التراثية، والتي تدلل على قدمه وعراقة التاريخ فيه".
ومضت المهندسة المعمارية قائلة "أراعي في عملية الترميم استخدام مواد غير مضرة بالحجر، وأعتمد على أساليب بدائية حتى نحافظ على الحجر وألا ينكسر، وأستخدم في تكحيل الحجر مواد طبيعية متساقطة في نفس المكان وأخلطها بمواد أخرى".
◙ المهندسة عادت إلى موطنها بعد أن عاشت متجولة لسنوات في عدد من الدول الأوروبية لكن حلم الطفولة كان يسافر معها إلى كل مكان
وأردفت "هندسيا، أحاول الحفاظ على القديم وأجعله قديماً أكثر، فعلى سبيل المثال، لو نظرت إلى الدرج ستشعر بأن عمره يعود إلى آلاف الأعوام". واستطردت "أنا أعمل لوحدي، والعمل شاق جداً، ولكنه ممتع، ففي نهاية النهار عندما تجد ما أنجزت أمام عينيك تشعر بقيمة ما قمت به، وبالطبع أستعين ببعض العمالة وخاصة في نقل الأشياء الثقيلة".
أما عن نظرة الناس إلى ما تقوم به، قالت حنا نصر "كثير من الناس وخاصة من يزوره يرى حجم العمل الذي جرى عليه، وبالتالي يعشق المكان ويستأذن لزيارته مرة أخرى (..) تشعر أن بالمكان روحا ويعطيك حجماً كبيراً من الفرح".
وتقع السلط على بعد 30 كلم من العاصمة الأردنية عمّان، وهي رابع أكبر مدن المملكة سكانا، وسميت قديما بـ"سالتوس"، نسبة إلى القائد اليوناني الذي فتحها زمن الإسكندر المقدوني وبنى فيها معبدا للإله "زيوس" بمنطقة "زي". وعام 2021، قررت لجنة التراث العالمي في اليونسكو الموافقة على إدراج السلط "مدينة التسامح والضيافة الحضارية" على قائمة التراث العالمي.