انتهاء إستراتيجية فرنسا في الساحل الأفريقي بعد عقد من الزمن

العلاقة بين فرنسا ونخبة دول الساحل الأفريقي استمرت لعقود ورحيل القوات الفرنسية الآن ينذر بنهايتها ما يطرح تساؤل: من سيحل محلها؟
السبت 2023/09/30
مشاعر معادية لفرنسا تدفعها للرحيل

باريس - بالنسبة إلى فرنسا، يبدو الأمر بمنزلة إخفاق مهين، تماما مثلما انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان تجر أذيال الخيبة منذ عامين. ولكن بالنسبة إلى النيجر، فالأمر يبدو نصرا مدويا، كما تفاخر قادتها العسكريون في بيان لهم عقب الإعلان. أما بالنسبة إلى بقية منطقة غرب أفريقيا، فالأمر بمنزلة الإنذار، وهو تداعي الحضور الغربي في المنطقة.

وبعد شهرين على توعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون برد "فوري وحاسم" في حال تعرض المواطنون الفرنسيون للمهاجمة بعد وقوع الانقلاب العسكري في النيجر، وبعد مرور 10 أيام على تصريحه باحتجاز السفير الفرنسي رهينة في البلاد، بدا الرئيس الفرنسي وكأنه قد رضخ للأمر. وحسبما أعلن ماكرون ستغادر القوات الفرنسية النيجر في غضون الأسابيع القليلة التالية، وهذا يعني الانسحاب الكامل لما يقدر بـ1500 مقاتل بحلول نهاية العام.

ويقول فيصل اليافعي في تحليل نشره على موقع "syndication bueau" إنه بذلك يبلغ الحضور الفرنسي في النيجر نهايته، وتنتهي معه بالتبعية إستراتيجية فرنسا التي دامت نحو 10 أعوام في منطقة الساحل الأفريقي نهاية مخزية.

وكانت القوات الفرنسية حاضرة في المنطقة منذ عقود، لكن آخر محاولاتها للسيطرة على دول الساحل الأفريقي وترسيخ الاستقرار فيها كانت عندما نشرت فرنسا قواتها في مالي عام 2013 لصد تقدم الجهاديين ضد الحكومة التي تحظى بدعمها. وقد حققت عملية برخان - كما أُطلق على عملية نشر القوات في أنحاء خمس دول - نجاحا محدودا، لكنها بدأت في الانحلال منذ ثلاثة أعوام مع تصاعد الأصوات المناهضة لفرنسا.

فيصل اليافعي: الحضور الفرنسي في النيجر يبلغ نهايته وتنتهي معه إستراتيجية فرنسا نهاية مخزية
فيصل اليافعي: الحضور الفرنسي في النيجر يبلغ نهايته وتنتهي معه إستراتيجية فرنسا نهاية مخزية

ويرجع ذلك في المقام الأول إلى الانقلاب العسكري الذي حدث في مالي عام 2020، والذي أطاح بالقوات الفرنسية خارج البلاد، وما أعقبه من انقلاب عسكري آخر في بوركينا فاسو بعد مضي عام واحد، لينتهي بذلك الحضور الفرنسي في تلك المنطقة. وهكذا أصبحت النيجر مركزا للعمليات الفرنسية، حتى هذا الصيف حينما تم عزل رئيسها المدعوم من فرنسا من السلطة.

واندلعت أحداث العنف في المنطقة على مدار الستة أعوام الماضية. كما أُزهقت أرواح الآلاف من المدنيين، وبدت البلاد غير قادرة على إحكام قبضتها على أراضيها الشاسعة التي لا تخضع لسيطرتها.

وعلى الرغم من أن الغرض الأساسي من عملية برخان كان التصدي للعصيان، فإنها عجزت عن إيقاف العنف ضد المدنيين، وقد أسهمت في إشعال فتيل ذلك العنف في واقع الأمر غارة جوية فرنسية قصفت حفل زفاف عن طريق الخطأ في مالي عام 2021، ما أسفر عن مقتل 19 شخصا من المدنيين. كما أن غضب الشعوب من حكوماتها ومن فرنسا، بالإضافة إلى تاريخ فرنسا المديد الذي يحفل بأعمال الفساد في القارة أسهما في تهيئة المناخ للترحيب بالانقلابات.

إلا أن رحيل فرنسا ليس بالنبأ السار لشعب النيجر، ولا المنطقة بكاملها. فالعلاقة الوثيقة بين فرنسا ونخبة دول الساحل الأفريقي استمرت لعقود من الزمن، ورحيل القوات الفرنسية الآن ينذر بنهايتها، ما يطرح تساؤل: من سيحل محلها إذن؟

وهنا تكمن المشكلة الجوهرية التي ينتظرها مستقبل هذه البلدان. فالتفسير المثالي لحدوث الانقلابات العسكرية التي اجتاحت المنطقة هو أن شعوبها قد سئمت من الفساد والفقر وهجمات الجهاديين، مع ملاحظة أن فرنسا – بما لها من نفوذ – لم تتمكن من صد أي منها، ولذا عمدت هذه الشعوب إلى استبدال زعمائها المدعومين من فرنسا والإتيان بآخرين لهم شعبية بين صفوفها. لكن هذا تفسير حالم إلى أبعد الحدود لعدة أسباب؛ الأول هو أن أيا من تلك الدول التي أطاحت بحكوماتها لم تستطع الإتيان بقادة ممثلين عن شعبها، إذ لا يزال جميعها تحت حكم العسكر.

والثاني هو أن ذلك التفسير يتجاهل الأمر الذي جعل مساحات تلك البلاد الشاسعة أرضا خصبة للوقوع تحت تأثير الإسلاميين، وهو عدم تطورها. فليس من المرجح أن تتحسن ظروف المعيشة بين ليلة وضحاها تحت حكم رجال يحملون السلاح في أيديهم وفي ظل رحيل الدول الغنية.

وأما السبب الثالث والأهم على الإطلاق فهو عدم وجود أي قوة خارجية تريد مساعدة هذه البلدان على أن تنعم بالاستقرار. فروسيا، التي غالبا ما توصف بأنها تنازع النفوذ الفرنسي، والدولة التي يمكنك رؤية علمها مرفرفا في التحالفات الموالية للمجلس العسكري في النيجر، ليست لها مصلحة في استبدال ذلك الحضور الفرنسي العسكري الواسع.

وحتى داخل المنطقة، ثمة توافق محدود. فالتجمع الإقليمي للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) الذي هدد بالتدخل العسكري في النيجر لإعادة الرئيس المنتخب محمد بازوم، على خلاف الآن مع المجالس العسكرية للدول الثلاث.

◙ استبدال نظام تدعم البنادق الفرنسية زعماءه بآخر يحمل زعماؤه السلاح لا يعد تغييرا من شأنه أن يعود بأي نفع على المنطقة

ووقّعت مالي وبوركينا فاسو والنيجر منذ أسبوعين على اتفاقية دفاع مشترك تمت صياغتها لتشكيل جبهة مضادة للإرهاب، في رد واضح منها على تهديد المجموعة الاقتصادية. فمن الواضح أن القادة العسكريين يعتقدون أنه يمكنهم كسب المزيد بالوقوف معا ضد التهديدات الداخلية والخارجية، بدلا من المشاركة في منظمات متعددة الأطراف.

وتعني تلك الاتفاقية انقسام المجموعة الاقتصادية إلى فريقين: فريق في الجنوب يمتد من الساحل إلى نيجريا، وفريق في الشمال يتألف من ثلاثة أنظمة حكم عسكرية. وبات التوافق بين الفريقين أصعب من أي وقت مضى. ولكن ليس من المرجح أن تغادر فرنسا المنطقة كليا، حيث إن لها حضورا عسكريا في مناطق أخرى في غرب أفريقيا، وفي تشاد والسنغال وساحل العاج.

والسؤال الأهم الآن هو ماذا عن قوات الولايات المتحدة في النيجر؟ للولايات المتحدة أكثر من ألف مقاتل في قاعدتين عسكريتين، وتعتمد على النيجر في إطلاق عمليات الطائرات المسيّرة في جميع أنحاء المنطقة. وهذه إشارة إلى انصباب تركيز المجلس العسكري على موقفه المضاد لفرنسا، وليس الغرب بشكل عام، إذ لم يُذكر سوى القليل عن هذه القوات.

وفي ظل عدم التوافق الذي يخيم على المنطقة ويمتد إلى خارجها، يبدو أن زعماء الانقلاب هم الأطراف الأكثر حسما في المشهد. لكن تقويض إستراتيجية فرنسا في منطقة الساحل الأفريقي لا يعني أن ثمة من لديه إستراتيجية أفضل. وفي الواقع، لا يعد استبدال نظام تدعم البنادق الفرنسية زعماءه السياسيين بآخر يحمل زعماؤه السياسيون السلاح تغييرا كبيرا من شأنه أن يعود بأي نفع على المنطقة.

6