حزب قيس سعيد

يحتاج قيس سعيد إلى تنظيم سياسي ذي أبعاد اجتماعية يكون وسيطا بينه وبين الشعب. إلى حد الآن يحظى الرئيس بشعبية جارفة وبأعلى نسبة من نوايا التصويت في أي انتخابات مرتقبة. ورغم كل الأزمات المتلاحقة التي تعرفها البلاد وخاصة منها المتعلقة بالتموين، فإن الحقيقة الأبرز التي يعترف بها القاصي والداني هي أن أغلب التونسيين لا يزالون يصدّقون رئيسهم ويصفونه بالرجل النظيف، ويدافعون عن مواقفه التي عادة ما تثير الجدل بين النخب، ويؤيدون كل تحركاته ويثقون بخياراته الوطنية.
يتبنى الرئيس سعيد خيار الديمقراطية القاعدية ويراه الأفضل للتعبير عن تطلعات الجماهير لممارسة حقها في إدارة شؤون بلدها، وفي مناسبات عدة انتقد بصفة مباشرة أو غير مباشرة الديمقراطية التقليدية ودور الأحزاب كأدوات وسيطة بين الحاكم والمحكوم، وكان أول ما بادر به بعد إعلان التدابير الاستثنائية في 25 يوليو 2021 تهميش دور الأحزاب تهميشا واضحا وخاصة من خلال القانون الانتخابي واستبعادها من دائرة الحكم. وقد وجد ليس فقط تفهما شعبيا لذلك وإنما دعما ملحوظا. فعشر سنوات من حكم الإخوان ومن تنامي ظاهرة الفساد السياسي ومن الصراع العبثي على السلطة جعلت أغلب التونسيين يحمّلون الأحزاب المسؤولية عمّا وصلت إليه البلاد من أزمات مالية واقتصادية واجتماعية وتراجع لأداء الدولة وغياب لسلطة القانون.
لا يمكن فصل اليسار الإسلامي عن مسارات حركة النهضة. فالنيفر مثلا، كان عنصرا أساسيا في ربط جسور التواصل مع إخوان مصر منذ بداية سبعينات القرن الماضي، ثم كان من مؤسسي الجماعة الإسلامية التي عرفت لاحقا بالاتجاه الإسلامي ثم بحركة النهضة
بعد أربعة أعوام من انتخاب سعيد رئيسا للبلاد، وبعد 25 شهرا من حركة يوليو الإصلاحية، يتبين أن هناك حاجة ضرورية لإيجاد الهيكل السياسي القادر على ربط جسور التواصل بين الرئيس والقواعد الشعبية الداعمة لمشروعه. قد تكون للأحزاب السياسية سلبياتها، ولكنها أفضل من الفراغ. يمكن تعريف الحزب السياسي على أنه مجموعة منظمة من المواطنين الذين يفضلون مشاركة نفس الآراء السياسية والذين يحاولون من خلال العمل كوحدة سياسية للسيطرة على الحكم.
أهم سند تنظيمي للرئيس يأتي من “تونس الحرة” وهي حركة يسارية متحدرة من صلب حزب الديمقراطيين الاشتراكيين بقيادة زعيمه التاريخي شكري بلعيد الذي تعرض لاغتيال في السادس من فبراير 2013. أغلب عناصر تلك الحركة كانوا من طلبة تلقوا دروسهم الجامعية في القانون الدستوري علي يد “الأستاذ” الذي التقوا به بعد انتفاضة ديسمبر 2010/يناير 2011 التي أطاحت بنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، ووجدوا تقاربا معه في الأفكار والرؤى والتصورات البديلة للمشهد السياسي في البلاد لاسيما بعد سيطرة الإخوان.
اليوم هناك شخصيات في السلطة تتحدر من “تونس الحرة” من أبرزها وزير الداخلية كمال الفقي ووزير الشؤون الاجتماعية مالك الزاهي، لكن الواضح أن هناك طرفا مقابلا يبدو أقرب إلى الرئيس من الناحية الفكرية والعقائدية، وهو التيار المحافظ المتحدر ممّا يسمّى بحركة اليسار الإسلامي التي ظهرت في مصر على يد المفكر الراحل حسن حنفي وتشكلت في تونس خلال عقد الثمانينات على أيدي شخصيات عدة من بينها احميدة النيفر الذي كان بدوره مؤثرا في طلبته ومن بينهم نوفل سعيد وهو شقيق الرئيس.
لا يمكن فصل اليسار الإسلامي عن مسارات حركة النهضة. فالنيفر مثلا، كان عنصرا أساسيا في ربط جسور التواصل مع إخوان مصر منذ بداية سبعينات القرن الماضي، ثم كان من مؤسسي الجماعة الإسلامية التي عرفت لاحقا بالاتجاه الإسلامي ثم بحركة النهضة، ولكن تم طرده من الجماعة بسبب مقالة نشرها بمجلة “المعرفة” وكشف فيها عن موقفه الناقد لسيد قطب وحركات الإسلام السياسي في المشرق والجماعة الإسلامية في باكستان وغيرها.
كان من أبرز أصدقاء نوفل سعيد محمد القوماني الذي كان من أهم وجوه اليسار الإسلامي وكان ينشط معه في نادي الجاحظ. ربطت بين الرجلين صداقة متينة، في العام 2016 انتمى القوماني رسميا إلى حركة النهضة ثم سرعان ما دفع به راشد الغنوشي إلى عضوية المكتب السياسي للحركة، قيل آنذاك إن الهدف كان فتح نافذة للتواصل مع الرئيس سعيد. في أبريل 2023 استقال القوماني من منصبه القيادي في النهضة واختار أن يستقل برأيه في ظل الصراع القائم بين الحركة والرئيس سعيد، والذي وصل إلى حد اعتقال عدد من أكبر قياداتها التاريخية وفي مقدمتها رئيسها راشد الغنوشي ومساعداه علي العريض ونورالدين البحيري.
من أهم وظائف الأحزاب أنها تبعث النشاط والحيوية في مؤسسات الدولة والمجتمع وتحافظ على ديناميكية النخب وتفسح المجال أمام القواعد الشعبية لإبلاغ صوتها لأعلى هرم السلطة
بدا واضحا أن نسبة مهمة من أنصار الإسلام السياسي ومن مساندي حركة النهضة اختارت الوقوف إلى جانب خيارات قيس سعيد وخاصة في ما يتعلق بالدفاع عن السيادة الوطنية ومحاربة الفساد. يدرك أغلب التونسيين أن الحركة كانت تعتمد بالأساس على المحافظين أكثر من المؤدلجين، وبعد حركة يوليو الإصلاحية اتجه أغلب أولئك المحافظين للوقوف إلى جانب الرئيس. وعندما زعم الغنوشي أن سعيد قاد انقلابا على النظام الديمقراطي، ودعا الشارع إلى التحرك، اصطدم بالواقع الجديد المؤلم: الشارع في أغلبه مع الرئيس وتدابيره الاستثنائية التي أطاحت بسلطة الإخوان وبدستور 2014.
اليوم، هناك اعتقاد بأن المحافظين على استعداد للانضمام إلى أيّ تنظيم قاعدي يعبر عن المشروع السياسي والاجتماعي والثقافي للرئيس سعيد. ومن الطبيعي أن يحتاج هذا التنظيم إلى مستويات للقرار الحزبي محلية وجهوية وطنية، وأن يعمل على التنسيق بين القيادة والقواعد الشعبية لاختيار الكوادر الأساسية لممارسة السلطة في مختلف مستوياتها التراتبية وبالتالي يمنع الأطراف المناوئة من محاولات التغلغل في مفاصل الحكم كما حصل في مناسبات عدة.
من أهم وظائف الأحزاب أنها تبعث النشاط والحيوية في مؤسسات الدولة والمجتمع وتحافظ على ديناميكية النخب وتفسح المجال أمام القواعد الشعبية لإبلاغ صوتها لأعلى هرم السلطة. يشير تونسيون كثر إلى أن نقطة ضعف الرئيس سعيد تمكن في أنه يتحرك وحيدا في مواجهة غابات من المناوئين والمتآمرين. وهو يحتاج إلى قوة منظمة على نطاف واسع تساعده على تنفيذ برنامجه السياسي وتساعده على فضح القوى المعادية بما فيها شبكات الفساد والاحتكار والتهريب والتلاعب بقوت الشعب. حاليا ليست هناك جسور للتواصل العملي بين الرئيس وشعبه.
في غياب حزب سياسي ستكون كل المؤسسات عرضة للاختراق، وقد حصل ذلك في مجلس النواب الحالي، وربما يحصل في مجلس الجهات والأقاليم كذلك. والسبب أن هناك من يحاول استغلال الفراغ التنظيمي للتظاهر بالدفاع عن مشروع الرئيس، ولكن من خلال القناعة العقائدية والالتزام الفكري الذي يمكن أن يساعد على إعادة ترتيب الأوراق في سياق حركة إصلاحية واسعة وشاملة ومعبرة عن تطلعات المجتمع.