معارضة مصرية خمسة نجوم

النظام المصري يمكنه أن يحقق انتصارا سياسيا سهلا بلا طعم في أي انتخابات، رئاسية أو برلمانية، عندما يكون معارضوه مسكونين بالمخاوف.
الجمعة 2023/08/18
أي علاقة للمعارضة بأوجاع الناس وأنينهم

عندما التقى عدد من قيادات المعارضة المصرية في أحد المنتجعات على البحر المتوسط، المعروفة بالساحل الشمالي، انهالت عليهم اللعنات السياسية من قبل محسوبين على الحكومة. لم يناقش أصحاب اللعنات الأسباب التي دفعت هؤلاء إلى الاجتماع فجأة، وصبّوا غضبهم على المكان الراقي الذي يخص أحدهم وكأنهم المفروض أن يعقدوا لقاءاتهم داخل خيمة في الصحراء.

لا يعيب المعارضة، أيّ معارضة، المكان الذي تعقد فيه اجتماعاتها، فالمهم الأفكار التي تناقشها. ولو أن من وجهوا اللوم ركزوا على الاجتماع لربحوا سياسيا، لأنه دار حول مقترح غامض ولا تتوافر له المقومات اللازمة بشأن تشكيل ما يسمّى بفريق رئاسي رفيع للتعامل مع انتخابات الرئاسة المقبلة، وهي فكرة لم تدرس جيدا وأحدثت خلافا في صفوف المعارضة، بين مؤيد ومعارض لها.

وقع من نالوا من اجتماع شخصيات معارضة في الساحل الشمالي في خطأين. الأول: أن رئيس الدولة والحكومة والوزراء يعتبرون مدينة العلمين الجديدة القريبة من الساحل الشمالي المقر الصيفي الرسمي لهم. والثاني: أنهم أجهضوا الرسالة الرسمية الرامية إلى التسويق لهذه المنطقة وجذب المزيد من المقيمين والسائحين إليها.

أوحت طريقة التعاطي مع اللقاء على أن من حضروه ظهروا كمعارضة من فئة الخمسة نجوم، أي لا علاقة لها بأوجاع الناس وأنينهم من الأزمات الاقتصادية المتراكمة، بينما خطابها لا يخلو من الحديث عن المشاكل التي تواجه الناس وتسببت فيها السياسات والتصورات الخاطئة للحكومة.

المعارضة المصرية تعاني من كل أمراض السياسة المصرية: انقسام وتشرذم وخلاف وضعف وقلة القيادات الكاريزمية التي يعول عليها في القول بأنها بديل جيد للنظام الراهن

ركزت الانتقادات التي تعرض لها من اجتمعوا في فيلاّ تخص أكرم قرطام رئيس حزب المحافظين على أن هؤلاء مكثوا بجوار البحر المتوسط يستجمون ويناقشون هموم المصريين وقت فراغهم، وبعضهم ارتدى لباس البحر وكأن المطلوب أن تكون هذه الاجتماعات قاصرة على أصحاب الياقات البيضاء.

تطول سلسلة الألغاز التي طرحها من نالوا من هذا الاجتماع، والذي لا يمثل إضافة إلى المعارضة، لكنه يُحسب للحكومة التي تركت لهم المجال لمناقشة قضايا سياسية بلا قيود أمنية صارمة، وهي رسالة مهمة تعكس مستوى التغير الذي يمكن أن يطرأ على الفضاء العام في مصر، والذي بدأ بإطلاق الحوار الوطني منذ أكثر من عام ولن ينتهي بقرار الرئيس عبدالفتاح السيسي دراسة ما نجم عنه من مخرجات.

لعل توصية الرئيس المصري باتخاذ ما يلزم من خطوات تشريعية وتنفيذية لتحويل رؤى الحكومة والمعارضة في الحوار الوطني إلى واقع ملموس من أهم التطورات التي تشهدها الساحة السياسية في مصر مؤخرا، يمكن بموجبها البناء عليها بالمزيد من الخطوات التي تهيّئ المجال لإصلاحات تضخ دماء سياسية جديدة.

ما تعرض له بعض قيادات المعارضة المصرية يؤكد أن هناك من لا يريدون حراكا سياسيا متقدما، ويصرّون على أن تظل البلاد تدور في حلقات ضيقة تخنق كل من يريد تطورا في أداء الأحزاب والقوى الوطنية، وأن التشكيك في نوايا المعارضة لن يساعد على توفير مناخ صحي لتمارس عملها في أجواء تفرز واقعا مغايرا.

حاول من قصفوا جبهات المعارضة والإيحاء بأنها مرفهة ولا تمثل الغالبية العظمى من الناس خلق صورة ذهنية أشد قتامة عنها، وهي التي كانت تتسول الإذن لعقد اجتماعاتها بأحد مكاتبها في وسط القاهرة، ولا تستطيع الحصول على موافقة للخروج بمظاهرة تعبّر عن مواقفها من إحدى القضايا البسيطة.

كان الأحرى تشجيع المعارضة على توسيع نطاق لقاءاتها في العلن بدلا من اللجوء إلى السرية أو منعها بما يتيح الفرصة لأصحاب التوجهات المتطرفة لسد الفراغ، وهو ما يمثل عبئا ثقيلا على كاهل أجهزة الأمن التي تواجه تحديات على مستويات مختلفة.

تنتظر مصر إجراء انتخابات رئاسية قد تشهد منافسة بين أكثر من مرشح، الأمر الذي يفرض على الحكومة السماح للمعارضة بعقد لقاءات علنية، لأن التضييق وعدم توافر ضمانات للشفافية وانعدام المجال العام لعقد انتخابات رئاسية سوف تؤدي كلها إلى انتكاسة تضر بالدولة المصرية التي تسعى لإحداث تغيير سياسي يتوافق مع طبيعة التطورات الإيجابية على صعيد ما تحقق من استقرار بعد فترة من التضحيات الكبيرة.

يتمنى مصريون أن يكون لديهم معارضة خمسة نجوم بالمعنى السياسي، أي تتحرك في الشارع بأكبر درجة من الحرية، وتعقد اجتماعاتها متى وأين أرادت. لكن المعارضة تعاني من كل أمراض السياسة المصرية، انقسام وتشرذم وخلاف وضعف وقلة القيادات الكاريزمية التي يعول عليها في القول بأنها بديل جيد للنظام الراهن.

المعارضة ذات الخمسة نجوم تحتاج ظروفا سياسية مواتية، لأن هذه الصفة لا تطلق على أشخاص يملكون سكنا مرفها، بل على ما يحويه المجال العام من فرص لتمارس المعارضة دورها

لا تزال المعارضة تئن من الداخل، ويوفر لها خصومها مبررات لتحميل ضعفها على عاتق النظام الحاكم ومؤيديه. فاجتماع عقدته لمناقشة فكرة سريالية جعلها في مهب الريح ووضعها في صورة الضحية وأغدق عليها مظلومية مفتعلة في جزء كبير منها.

وعلى الرغم من الطعنات التي تعرض لها من اجتمعوا في الساحل الشمالي، إلا أنهم خرجوا رابحين. فالصور التي جرى تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي انتشرت بالشكل الذي وفر ذيوعا لأصحابها، وتحولت الدعاية السوداء إلى بيضاء.

من قاموا بتوجيه الانتقادات أسرفوا في النيل من المعارضة وأغدقوا عليها أوصافا بعيدة عنها من قبيل الرفاهية والانعزال وعدم القدرة على الاقتراب من مشاكل الناس، ما أوجد تعاطفا نسبيا مع هؤلاء، ليس حبا فيهم بقدر ما هو اعتراض على السهام التي نالت من شخصيات تحظى باحترام في وجدان شريحة من المواطنين.

تحتاج المعارضة ذات الخمسة نجوم ظروفا سياسية مواتية، لأن هذه الصفة لا تطلق على أشخاص يملكون سكنا مرفها، بل على ما يحويه المجال العام من فرص لتمارس المعارضة دورها بالطريقة التي تمكنها من أداء مهامها كما هو متعارف عليه في الأدبيات السياسية في أيّ من الأنظمة الديمقراطية أو تلك التي تريد الأخذ بناصيتها.

كلما اشتد عود المعارضة وزادت شوكتها السياسية قوي النظام الحاكم في أيّ دولة وتضاعف مؤيدوه، لأنه عندما يواجه أحزابا قوية ويستطيع هزيمتها في انتخابات نزيهة فهذه واحدة من المزايا التي تعزز ثقة الناس به ورفع رهاناتهم عليه، بينما ضعف المعارضة وهشاشتها وعدم الحرص على تهيئة المجال لتقويتها لن يمكن أيّ سلطة أو حزب حاكم من الحصول على دوافع للمنافسة والمراجعة والتطوير.

يمكن للنظام المصري أن يحقق انتصارا سياسيا سهلا، بلا طعم في أيّ انتخابات، رئاسية أو برلمانية، عندما يكون معارضوه مسكونين بالمخاوف، لكن يمكنه أيضا تحقيق فوز مريح إذا أتاح للمعارضة الدخول في منافسة جادة، حيث يملك من الأدوات التي تساعده على الفوز بأريحية وشفافية، بينما مقومات الضعف التي تنخر جسد المعارضة في حاجة إلى وقت لتجاوزها.

اقرأ أيضا:

9