أعيدوا لهم آثاراهم.. ليس بعد

تنخرط العديد من الدول ذات الماضي الاستعماري في توجه جديد يتمثل في إعادة الآثار المنهوبة أو المسلوبة بالقوة إلى أوطانها الأصلية، وقد لاقى هذا التوجه ترحيبا كبيرا من كل الأطراف، ولكن بعض الدول اختارت أن لا تنخرط بشكل كبير في هذا التوجه، ومن أبرزها وأهمها المملكة المتحدة.
لندن - يمكننا أن نرى في إرجاع القطع الفنية لأصحابها سلسلة من المراجعة الذاتية الوطنية وردا للحقوق. وصدرت تقارير من البلدان الغنية عن تسليم الكنوز الثقافية في كل أسبوع تقريبا من 2023، حيث يقرر جامعون عامون أو خاصون للقطع إعادتها إلى أصحابها الأصليين أو بلدها الأصلي على الأقل.
ويمكن إدراج هذه القصص في ستة تصنيفات منفصلة، لكن تأثيرها الأخلاقي تراكمي. ويتعلق بعضها بإعادة الطلاسم إلى الشعوب الأصلية. وتشمل أخرى دلالات التكفير عن النهب خلال الحقبة الاستعمارية. ويعكس بعضها حساسية جديدة تجاه حوادث السلب الأخيرة من الأماكن المتضررة من الحروب أو الفوضى أو عدم كفاية الرقابة على تجارة الآثار.
وفي أحدث عمل نابع عن ندم ما بعد الإمبراطورية، تعهدت هولندا في السادس من يوليو بإعادة ما يقرب من 500 قطعة إلى إندونيسيا وسريلانكا. وتبعت ذلك تعهدات من النمسا وأيرلندا، وهما دولتان لا ترتبطان عادة بقصص الاستعمار العالمي، بمراجعة مجموعاتهما بحثا عن قطع ارتبط وجودها في أوروبا بالاستعمار.
لكن رغم الاندفاع لإعادة ما افتُكّ منذ فترة طويلة، لا تزال بعض الدول كبريطانيا تتجنب إرجاع ما أخذته عنوة. وتبرز المملكة المتحدة ومؤسساتها الثقافية بين الدول الغنية المقاومة للحركة العالمية نحو المراجعة الذاتية والإعادة الاختيارية.
سلسلة من التسليمات
علاقة بريطانيا المؤلمة بالتعويض تعكس الطريقة التي تطغى بها قضية رخام البارثينون على كل شيء آخر
لنذكر بعض الأمثلة من هذا العام. أعاد متحف هيوستن للعلوم الطبيعية في تكساس خلال شهر يناير ناووسا إلى القاهرة كجزء من جهود الحكومة المصرية لاسترجاع قطعها الأثرية القديمة.
وبعد أيام، عرضت وزارة الثقافة الإيطالية 60 قطعة استعادتها من المتاحف والمجموعات الأميركية التي كانت قد حصلت عليها بطريقة غير مشروعة. وكان ثلثها معروضات سابقة في متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك. ومثّل التحرك نموذجا للتعاون بين سلطات إنفاذ القانون الأميركية والإيطالية.
وأعاد متحف بيبودي لعلم الآثار وعلم الأجناس الواقع ضمن حرم جامعة هارفارد في فبراير عمودا خشبيا يبلغ ارتفاعه 12 قدما إلى إحدى الجماعات من السكان الأصليين في كندا (شعب جيتكسالا)، وهي خطوة سبقتها عودة قوارب الكاياك التقليدية إلى مكانها الأصلي في ألاسكا.
كما تركّز الاهتمام حول الجهود المستمرة لمحو آثار نهب النازيين للقطع الفنية، بعد مرور ربع قرن من الجهود المتواصلة من أجل تجسيد الاتفاق الدولي الهادف إلى إنصاف العائلات صاحبة القطع التي سلبها هتلر على أرض الواقع.
وفي الفترة التي تسبق الذكرى السنوية التي ستُقام في ديسمبر لاتفاق واشنطن بشأن الجرائم النازية في الميدان الفني الذي يشمل 44 دولة، يعقد الأكادميون والقيمون مجموعة كبيرة من المناقشات حول مستقبل التعويض. وترعى دار كريستيز للمزادات الدولية مثل هذه التجمعات في العديد من البلدان، على الرغم من انهيار خطط عقد واحدة في تل أبيب بسبب اعتراضات إسرائيلية على بيع مجوهرات أخير نظمته الدار التي تتخذ من لندن مقرا لها. ويكمن موضوع النقاش المتكرر في الكيفية التي يمكن بها تطبيق الإجراءات القانونية المتعلقة بالسلب النازي على أعمال النهب التي تورطت فيها القوى الاستعمارية، خاصة في أفريقيا.
ولا يقتصر عكس النشاط النازي على المحادثات، بل يشمل الإجراءات القانونية. وطلبت محكمة فرنسية في العاشر من فبراير من متحف أورسيه في باريس تسليم أربع لوحات مهمة لمندوبي المالك السابق أمبرواز فولارد، بعد نقاشات استمرت عشر سنوات. وكان فولارد ومساعده اليهودي إريك سلوموفيتش من بين كبار تجار القطع الفنية في فرنسا قبل الحرب.
الاستثناء البريطاني
لم يكن إرجاع القطع الأثرية غير المشروعة في الولايات المتحدة سياسيا مثل أوروبا لكنه اعتبر مثيرا للإعجاب
تغيب المملكة المتحدة بشكل ملحوظ عن نهج إعادة الآثار المسروقة. وحتى تفهم نمط التفكير البريطاني، ضع في اعتبارك موقفها تجاه ما قد يكون أشد نزاع في العالم حول المنحوتات التي كانت تزين الأكروبوليس في أثينا والموجودة الآن في لندن.
وتشجع المسؤولون اليونانيون في الرابع والعشرين من مارس عندما نُقلت ثلاث قطع رخامية من البارثينون من الفاتيكان إلى متحف الأكروبوليس بناء على طلب البابا. وضاعف هذا من عزمهم على الضغط للحصول على الجزء البالغ طوله 75 مترا من رخاميات البارثينون، التي نُقلت إلى بريطانيا قبل 200 عام، والتي توجد الآن في المتحف البريطاني.
لقد رفض البريطانيون كما كان متوقعا. وأصر المتحف البريطاني على أنه حصل على رخاميات البارثينون بشكل قانوني ولا يمكنه إرجاعها بموجب ميثاقه. وأكدت الحكومات البريطانية على استقلالية المتحف وأوضحت عدم رغبتها في النظر في التشريع الذي من شأنه التأثير على النظام القائم في المتحف.
وبرز بعض الأمل في حل بدا مربحا لجانبي هذا النزاع القديم عندما قيل إن رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس عقد اجتماعات سرية في أواخر 2022 مع رئيس المتحف البريطاني جورج أوزبورن، وناقشا فكرة إعادة بعض المنحوتات إلى أثينا عبر عملية طويلة الأجل. ولكن رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك أبدى في الثالث عشر من مارس المنقضي موقفا أكثر تشددا، وأصر على أن المملكة المتحدة فعلت ما يكفي بالفعل بمشاركة كنوزها مع العالم.
وتبدو الفجوة آخذة في الاتساع على المدى القصير. ففي غرة يوليو، عندما اقترح عمدة لندن صادق خان خطة تسمح بالاستمتاع بالمنحوتات في كل من لندن وأثينا، وصف العديد من المعلقين اليونانيين والمؤيدين لهم اقتراحه بأنه غير ملائم، بينما أكد المتحف من جديد عزمه على عدم “تفكيك المجموعة”.
معركة البرونزيات
يكمن مثال آخر على الاختلاف بين وجهات النظر البريطانية والغربية الأخرى بشأن التعويض في الاستجابة المتناقضة لما يسمى برونزيات بنين، التي تثير مشاعر قوية.
وتنبع هذه القضية من موجة النهب العقابي التي ارتكبتها القوات البريطانية في 1897 بمداهمة مدينة بنين. وشملت الحمولة منحوتات من البرونز والعاج وكذلك التماثيل والأجراس. وتوجد أكثر من ألفي قطعة اليوم في المجموعات العامة والخاصة، وأصبح مصطلح “برونزيات بنين” رمزا للكنوز الأفريقية المنهوبة وانتشارها في جميع أنحاء العالم الثري.
وقال الصحافي بارنابي فيليبس، الذي ألف كتابا عن النهب خلال العصر الفيكتوري، “إذا كنت تعيش في أي مكان من سياتل إلى ستوكهولم، فمن المحتمل أنك بالقرب من متحف به مجموعة من القطع البرونزية من بنين. وتم توثيق هذه العملية جيدا، بل وحتى تصويرها. وتصنف المنحوتات المنهوبة ضمن أعظم كنوز أفريقيا الثقافية”.
واستجابت العديد من الحكومات الغربية بجرأة لتحدي القطع البرونزية الأخلاقي. وقال إيمانويل ماكرون في 2017، بعد فترة وجيزة من انتخابه رئيسا لفرنسا، إنه لا يستطيع “قبول كون جزء كبير من التراث الثقافي من العديد من البلدان الأفريقية موجودا في فرنسا”. وأدى ذلك إلى تحقيق رفيع المستوى، وتغييرات في التشريعات (مع وجود ثلاثة قوانين جديدة في طور الإعداد الآن). وشملت بعض الإجراءات إعادة 26 قطعة مقدسة، استولت عليها القوات الفرنسية في 1892، إلى دولة بنين المستقلة.
"برونزيات بنين" أصبح مصطلحا يرمز إلى الكنوز الأفريقية المنهوبة وانتشارها في جميع أنحاء العالم الثري اليوم
واتخذت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك خطوة مماثلة في ديسمبر 2022 حين أعادت 20 قطعة برونزية ثمينة من غنائم غارة 1897 البريطانية إلى نيجيريا. وقالت “نحن هنا لتصحيح الخطأ”. وكان الإجراء جزءا من مبادرة طويلة المدى ومنظمة إستراتيجيا لعكس آثار النهب الاستعماري ومساعدة البلدان الأصلية على عرض كنوزها التي استرجعتها.
ولم يكن إرجاع القطع الأثرية غير المشروعة في الولايات المتحدة سياسيا بنفس القدر ولكنه اعتُبر مثيرا للإعجاب. ونقلت مؤسسة سميثسونيان بواشنطن في أكتوبر الماضي ملكية 29 قطعة برونزية من بنين (استولى عليها البريطانيون أيضا) إلى نيجيريا. وتماشى هذا مع “سياسة الإرجاع الأخلاقية” التي وضعتها في أبريل 2022، التي تسمح بإعادة القطع المسروقة أو التي أمكن الاستيلاء عليها بوسائل قسرية.
وتحددت وتيرة الإرجاع في الولايات المتحدة من خلال مزيج من جهود النشطاء المتحمسين، وتصميم السلطات الفيدرالية والمحلية المتزايد على مكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية، وحرص المتاحف الرائدة على السبق في تطهير المجموعات.
وتتلاقى هذه العوامل في الممارسة العملية كما يتضح من إنجازات بعض الأفراد النشطين. ويُذكر من بينهم ماثيو بوغدانوس، وهو كولونيل سابق في مشاة البحرية ومحارب قديم في حرب العراق جعل مكتب المدعي العام في نيويورك مركزا للتحقيق في الجرائم الثقافية. وبعد أن ساعد في عكس مسار نهب المتحف الوطني العراقي في 2003، أنشأ وحدة لمكافحة تهريب الآثار لمواجهة المتاحف وجامعي الآثار بخصوص مقتنياتهم الغامضة.
وأدان بوغدانوس وفريقه العشرات من المهربين منذ 2010، وصادروا أكثر من 4 آلاف قطعة تقدر قيمتها بأكثر من 200 مليون دولار، وأعادوا أكثر من ألفي قطعة.
مناقشة الماضي الإمبراطوري

لا يوجد في بريطانيا معادل واضح للتوجه السياسي المقدم في فرنسا وألمانيا، أو الحماس الاستقصائي الذي أظهره أمثال بوغدانوس.
لكن هذا لا يعني غيابا كليا فيها للنقاش حول إرث الماضي الإمبراطوري. وتصاعدت الخلافات حول كيفية تقديم التاريخ منذ يونيو 2020، عندما أسقط متظاهرون غاضبون في مدينة بريستول تمثال تاجر الرقيق إدوارد كولستون. وواجهت مؤسسة التراث القومي “ناشونال تراست” اتهامات بالتصحيح السياسي المفرط في حرصها على تجنب عرض أنماط حياة الأثرياء البريطانيين الذين استفادوا من غنائم الإمبراطورية. ويريد الآخرون أن تذهب المؤسسة إلى أبعد من ذلك.
وتدرك السلطات في بريطانيا مطالب عودة برونزيات بنين، لكن الاستجابة كانت مجزأة ولم تكن مدروسة أو منهجية. وغيّر المتحف البريطاني، بموجب سياسة تُعرف أحيانا باسم “الاحتفاظ والشرح”، الطريقة التي يقدم بها مجموعة برونزيات بنين، فهو يقر بأن تدمير العاصمة الأفريقية، والاستيلاء على قطعها الملكيّة والمقدسة، لم يكن سليما.
وأعلن متحف هورنيمان البريطاني الأصغر في أغسطس الماضي أنه سيتنازل عن ملكية 72 قطعة برونزية لأسباب أخلاقية. وسلّم ستا منها إلى المسؤولين النيجيريين في نوفمبر، بما في ذلك قطعة عاجية كان قد تبرع بها أحد المشاركين في غارة بنين.
لكن هذا لا يرقى إلى مستوى الإجماع الأخلاقي الذي نشأ في معظم البلدان الغنية.
ويرى مدير معهد الفن والقانون المستقل ألكسندر هيرمان أن علاقة بريطانيا المؤلمة بالتعويض تعكس الطريقة التي تطغى بها قضية رخام البارثينون على كل شيء آخر.
فبالنسبة إلى البريطانيين المؤثرين الذين يفضلون الاحتفاظ بها في لندن، أصبحت القدرة على حفظ الكرات الرخامية أساس الحجج التي تدعو إلى عدم إعادتها. ووفقا لهذا الرأي، تصبح للمتحف البريطاني مهمة تقديم الإنجاز البشري، وتمكين الزوار من فهم كيفية تأثير الحضارات على بعضها البعض.
وقال هيرمان إن “ظل البارثينون يلوح في أفق جميع نقاشات الاسترداد في المتحف البريطاني وحكومة المملكة المتحدة. وأمكن التدرب على الحجج المتعلقة برخام البارثينون على مدى 200 عام بحيث أصبح يسهل على المؤسسة الاعتماد على خطابها المعتاد”.
ويرى هيرمان أن روح الاستحقاق هذه تجعل بريطانيا تختلف عن دول أوروبا أو حتى أميركا. ويرجع ذلك جزئيا إلى غياب ذاكرة جماعية للإذلال أو الغزو في بريطانيا. وشهدت فرنسا على سبيل المثال إزالة الكنوز من متحف اللوفر في 1815 بعد هزيمة نابليون.
وبدا أوزبورن في بعض الأحيان وكأنه بريطاني محافظ في خطابه السنوي لأمناء المتحف. وقال مثلا إن “إنشاء هذا المتحف البريطاني العالمي كان نتيجة جهود عدة أجيال. يجب ألا يكون تفكيك مجموعاته عمل جيل واحد”. ودعا إلى تحويل مجموعة لندن إلى “متحف لإنسانيتنا المشتركة” و”مكان يربطنا في عالم يفرق بيننا”.
قد يبدو هذا الكلام جريئا في آذان البريطانيين، لكنه استعلاء بالنسبة إلى الكثير من غير البريطانيين. ولم تمنع هذه الفجوة غير المريحة التقدم في مفاوضات أوزبورن السرية مع ميتسوتاكيس خلال العام الماضي.
ويتعرض ميتسوتاكيس الآن، بعد أن حقق فوزا انتخابيا رائعا في يونيو، لضغوط للوفاء بتعهده بإحضار الرخاميات إلى أثينا دون المساس بالمبدأ اليوناني بأنه سُرق.
فما مدى المرونة والإبداع اللذين يمكن أن يتسم بهما ميتسوتاكيس المعاد انتخابه؟
أبدى السياسي اليوناني في مجالات أخرى من السياسة الثقافية استعداده لتجاهل الحساسيات القومية. ويُذكر على سبيل المثال منح تجديد متحف أثينا الأثري الوطني للمهندس المعماري البريطاني السير ديفيد شيبرفيلد الذي فاز بمناقصة دولية. لكن ستسبب أي إشارة تدل على قبول الملكية القانونية للمتحف البريطاني للرخام ضجة في اليونان.
ويريد أوزبورن تجديد المتحف من خلال تحويل قيمته مليار دولار في إطار ما سُمّي مشروع روزينا، تيمنا بحجر روزينا، المعروف أيضا باسم حجر رشيد، وهو الصخرة التي سمحت بفك رموز اللغة الهيروغليفية (طالبت مصر بإعادتها بعريضة شملت أكثر من 100 ألف موقع، بقيادة عالم آثار). وستكون إعادة ترميم المتحف الأكثر تكلفة في التاريخ البريطاني.
وسينظر العديد من الأشخاص خارج بريطانيا إلى التقدم في مشروع روزينا قبل أي تفاهم حول منحوتات البارثينون على أنه من أعراض غطرسة المملكة المتحدة وانعدام تعاطفها الثقافي.