دلالات أمنية وسياسية لإلغاء حفل مطرب أميركي عند سفح الأهرامات

الإعلان عن حفل لمغن عالمي ثم إلغاؤه تحت أي مبررات يمس من الصورة الخارجية لمصر كوجهة سياحية. وهناك انتقادات للجهات الأمنية التي اعترضت على إقامة الحفل، حيث كان الأولى أن تعلن ذلك قبل أن تمنح الجهات المدنية التصريح للمنظمين، إضافة إلى انتقاد سلبية وزارتي الثقافة والسياحة.
القاهرة - حوى إلغاء حفل مطرب الراب الأميركي ترافيس سكوت عند سفح الأهرامات في مصر الجمعة مجموعة كبيرة من الدلالات الأمنية والسياسية، لأن الجهة المنظمة قالت إنها حصلت على الموافقات اللازمة من أربع جهات رسمية وشرعت في ترتيب الإجراءات اللوجستية لإقامة الحفل في الموعد المتفق عليه سلفا، لكنها فوجئت بعثرات ومطبات لم تمكنها من معاينة المكان واتخاذ الخطوات التي تجعله جاهزا لاستقبال مطرب مشهور بيعت تذاكر حفله في 54 دولة.
وأكد إعلان إلغاء الحفل رسميا الأربعاء، أي قبل يومين من موعده، أن هناك ترددا وصل حد التضارب في قرارات الحكومة المصرية، فبعد الحصول على الموافقات المطلوبة من وزارتي الثقافة والسياحة والآثار ونقابة الموسيقيين، وموافقة ضمنية من الأجهزة الأمنية، أدلى نقيب الموسيقيين مصطفى كامل بتصريحات تفيد بسحب الترخيص الممنوح للجهة المنظمة بحجة أن النقابة اكتشفت أن المطرب الأميركي له تصرفات “شيطانية” على المسرح لا تتناسب مع القيم والعادات والتقاليد في مصر.
ويدين هذا الكلام صاحبه، فمن المفترض أنه قبل أن يمنح موافقة الجهة التي يرأسها يعرف من هو المطرب الأميركي، وإذا كان عرف وصمت فتلك مصيبة، وإذا لم يكن يعرف فالمصيبة أعظم، وهو تخبط يبيّن كيف يتخذ الموسيقار قراراته في نقابة تؤمن بحرية الإبداع، خاصة أن ترافيس نفى الاتهامات التي وجهت إليه.
بعض الأجهزة تتصرف بخشونة تكبد الدولة خسائر فادحة، في حين أنها قادرة على التصرف بمرونة وتحقيق مكاسب
وفي الوقت الذي صال فيه المنظمون للحفل وجالوا وصرخوا لمعرفة هل سيعقد في موعده أم لا التزمت وزارتا الثقافة والسياحة الصمت، وكأن الأمر لا يعنيهما، وبلا إدراك لخطورة التداعيات الناجمة عن هذه الحالة محليا وعالميا، فمطرب الراب له شعبية كبيرة داخل الولايات المتحدة وخارجها وإقامة حفله عند الأهرامات بالجيزة القريبة من العاصمة القاهرة وتدشين ألبومه الجديد “يوتبيا” كان كفيلا بدعم الثقافة والسياحة في مصر، والتعريف بأهمية المكان الذي شهد تطورا كبيرا مؤخرا.
وإذا كانت الجهات الأمنية اعترضت على إقامة الحفل، كان الأولى بها أن تعلن ذلك مبكرا وقبل أن تمنح الجهات المدنية تصريحات للمنظمين، فلن تجرؤ إحداها على إبداء موافقة نهائية أو مبدئية دون الرجوع إلى الأجهزة الأمنية المعنية، ما يشي بأن المنظمين حصلوا على صك لإقامة الحفل، ثم حدث تراجع لأسباب مختلفة.
وتعد هذه النقطة مفتاح تفسير التضارب الظاهر الذي تصدرت مشهده نقابة الموسيقيين ومعها وزارتا الثقافة والسياحة، فبعد أن ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بحملات رافضة لحضور المطرب الأميركي وما قيل عن عادات وحركات “شاذة” يمارسها في حفلاته استشعرت الجهات الأمنية توجسا من أن تتحول المناسبة التي كان الغرض منها المساهمة في الترويج للسياحة إلى أزمة مزدوجة.
وعلى الصعيد الأمني، نجحت الدولة في توفير درجة عالية من الأمن والاستقرار والحكومة غير مستعدة لخدش هذا التقدم الملموس بأيّ تصرفات غير مسؤولة في وقت تبذل فيه جهودا كبيرة لتستعيد السياحة بريقها، فقد ركّز رواد مواقع التواصل على حادث للمطرب الأميركي راح ضحيته عدد من جمهوره الغفير نتيجة التدافع.
وعلى الصعيد السياسي، لا يريد النظام المصري تحمل تكلفة باهظة نتيجة احتمال حدوث خطأ من قبل المطرب أو جمهوره يؤدي إلى خروج كبير على القاموس الأخلاقي الذي ترعاه الدولة، ما يرسل إشارات عكسية، خاصة أن هناك اتجاها في دواليبها يعظّم من المسألة الدينية، ويمكن أن تفقد السلطة جانبا من بريقها في هذه الزاوية وتبدو تصرفاتها متناقضة لدى الرأي العام.
كما أن الأجواء السياسية الملبدة بغيوم كثيفة لن تتحمل حدوث خطأ غير مقصود قبل إجراء انتخابات رئاسية مهمة، وستكون الأضواء مسلطة على الحفل عالميا، فالمطرب لديه الملايين من المتابعين على صفحاته الخاصة على مواقع التواصل، وشاشات الكثير من الفضائيات تتابعه، وكاميرا الموبايلات لا تتوقف عن رصد حركاته، فضلا عن مؤثرين يرغبون في زيادة روادهم من خلال حفل كان سيشهد إقبالا كبيرا.
واختصرت الحكومة المصرية المتاعب المتوقعة في إعلان الرفض، والذي جاء متأخرا ومعبّرا عن حيرة كبيرة انتابتها بشأن انعقاد الحفل أو إلغائه، الأمر الذي يفسر ما ظهر من ارتباك فاضح بين الجهات المعنية، ففي الحالتين هي تعلم أن النتيجة مكلفة.
وتأتي المشكلة من البطء في اتخاذ القرار، والذي له علاقة بالمركزية الشديدة في مصر، فليس مهمّا أن تلغي حفلا أو مناسبة، لكن من المهم أن تعي متى وكيف ولماذا تلغي، وهي الأسئلة التي طرحت بغزارة وغابت إجاباتها، وجعلت الكثير من الناس يبحثون عن إجابات لها، بها مبالغات كبيرة أحيانا، لأنهم افتقدوا الجهة التي تخبرهم بالمعلومات الصحيحة، ولا يعلمون من الذي يتخذ القرار في هذا النوع من القضايا.
وقد تكون القضية فنية موسيقية، لكنها حافلة بالمضامين الأمنية والسياسية، وكاشفة لمدى الخطورة التي يمكن أن تواجهها القاهرة إذا بالغت في المركزية أو تهاونت في دراسة الأمور برويّة أو لم تراع عنصر الوقت، ففي حالة ترافيس سكوت كم من الخسائر المادية والمعنوية يمكن أن تكون خسرتها الدولة في وقت تبحث عن وسيلة لزيادة مواردها من العملات الأجنبية، وتستعد لنقلة حضارية في الترويج لمزاراتها.
ومع كل هذه المظاهر القاتمة التي عبّرت عنها هذه القضية، إلا أن القاهرة لم تخل من عقول راجحة يبدو أنها تواصلت مع مطرب الراب الأميركي لتطييب خاطره وامتصاص الأزمة الناجمة عن إلغاء الحفل، ما يفسّر الطريقة التي تعامل بها الرجل.
وحرص سكوت على نفي فكرة إلحاده أو عبادته للشيطان وكتب على حسابه على موقع إكس (تويتر سابقا) “أنا من هيوستن، وهي ولاية لها عادات وتقاليد في احترام فكرة الأسرة، وأنا من أسرة متدينة تواظب على حضور الصلوات بالكنيسة”، مؤكدا أن الحفل سيقام في موعد آخر، سيحدد فيما بعد، ومتابعا أنه واجه مشاكل مماثلة مثل هذه المشكلة في مناطق أخرى، وهي عبارة تحفظ ماء وجه بعض المسؤولين في مصر.
وتمثل هذه الصيغة حرصا متبادلا من مطرب الراب الأميركي والقاهرة، وتعبّر عن حنكة كبيرة لامتصاص الغضب والقدرة على التعويض، وأن الحكومة المصرية مستعدة لإقامة الحفل في موعد لاحق، وقد تختار له مناسبة مثل الإعلان رسميا عن افتتاح المتحف المصري الكبير الأشهر المقبلة، والقريب من سفح الأهرامات.
وتتصرف بعض الأجهزة المصرية بخشونة تكبد الدولة خسائر فادحة، في حين أنها قادرة على التصرف بمرونة وتحقيق مكاسب، وتأتي الفجوة غالبا من عدم التنسيق بينها، وخوف بعض المسؤولين من اتخاذ قرارات لها عواقب سلبية أو تلحق بهم أذى معنويا، وحل طلاسم هذه العقدة يمكن أن يكون مدخلا لعدم تكرار ما حصل من تضارب حيال إقامة حفل ترافيس سكوت أو إلغائه.