صناعة الفخار في سوريا تنفض الغبار ببطء

بدأت صناعة الفخار في سوريا تعود إلى الانتعاش بعد أن كانت مهددة بالاندثار، فانقطاع الكهرباء المتكرر دفع السوريين إلى العودة إلى الإبريق والجرة الفخارية لتبريد الماء. كما أن المطاعم وبائعي الزهور عادوا إلى استعمال الأواني الفخارية لمواجهة مضار الأواني البلاستيكية.
دمشق - يجلس محمد سالم الفاخوري البالغ من العمر 60 عاما على كرسي حديدي وأمامه دولاب مربوط بعجلة دائرية يحركها بقدمه، وبين يديه عجينة من الصلصال تزن 5 كيلوغرامات، ليكوّن منها إبريقا يضع عليه بعض النقوش والزخارف التي ابتكرها لتضفي عليه رونقا خاصا. والفاخوري الذي اكتسب لقبه من حرفة صناعة الفخار، يعمل بها منذ أكثر من 50 عاما، وهي مهنة والده وجده وأغلب عائلته، ولعشقه لهذه الحرفة تمكن من الإبداع فيها واستطاع أن يعرف أسرارها وأن يترك بصمة واضحة عليها.
وقال الفاخوري لوكالة أنباء “شينخوا”، “حرفتي التي أعشقها هي صناعة الفخار وقد امتهنتها منذ كنت في الصف الثاني الابتدائي وورثتها عن أبي وجدي”، مبينا أن الشخص الذي يريد أن يعمل في هذه المهنة يجب أن يحبها، مؤكدا أن من الصعب جدا على أي شخص أن يتعلمها دون أن يحبها.
وتابع الرجل، وهو يضع يده اليمنى داخل القطعة الفخارية التي بدأ بتشكيلها والأخرى على العجينة من الخارج، “الحرفة فيها تعب كثير وتحتاج إلى طول بال وفن، ولكن عندما تنتهي من العمل، وتشاهد أنك أنجزت عملا كاملا تشعر بالفرح”، واصفا شعوره بأنه “إحساس رائع، لأنك صنعت من لا شيء شيئا ومن التراب صنعت أواني منزلية وصنعت مزهريات وقطعا صمدية".
وأضاف الفاخوري أن “عمل الفخار له مجال واسع ويحتاج إلى صبر ورؤية جمالية كي يتمكن من صناعة أشياء فخارية جميلة”، مؤكدا أن من الوهلة الأولى ترى أن صناعة الفخار بسيطة، ولكن في الحقيقة هي مهنة دقيقة وحساسة كثيرا. وأوضح أن هذه المهنة تتطلب الكثير من الأشياء، أهمها معرفة الأحوال الجوية، وكيفية التعامل مع القطعة عندما تنتج، مبينا أن الفواخرجي يجب أن يحسب حساب نسمة الهواء فهي، حسب رأيه، قادرة على تخريب كل ما صنعه، لأن قطعة الفخار إذا ضربها الهواء من جهة دون أخرى تتشقق ويذهب الشغل سدى.
وتابع "يجب أن تراعى قطعة الفخار عندما تخرج من فرن الشوي، فهذه الصناعة تحتاج كما قلنا إلى صبر ومهارة عالية حتى تصل إلى المستهلك”، مؤكدا أن الممارسة هي التي تعطي الحرفي الخبرة العالية، وربما كما يقال “ممارس غلب فارس.
وقال الفاخوري "الناس بدأوا يعودون إلى الأواني الفخارية أخيرا، وخاصة أواني الشرب مثل إبريق الماء والجرة الكبيرة لأنهما يحتفظان بالبرودة لفترة طويلة، خاصة في غياب التيار الكهربائي لساعات طويلة قد تصل إلى 5 أو 6 ساعات". وأضاف "الفخار شيء صحي للإنسان، ويساهم بتنقية الماء وبإعادة الأوكسجين له، وهذا الكلام مثبت علميا، والماء هو عبارة عن روح تموت عندما توضع في الأواني البلاستيكية والحديدية، بينما تعيش بالفخار".
وأشار الفاخوري إلى أن حرفة الفخار حاليا باتت مكلفة وغالية لأن كلف الإنتاج أصبحت عالية جدا، مؤكدا أن من الصعب رفع أسعار الأواني الفخارية لتوازي كلف الإنتاج، لأن الناس ينظرون إلى هذه الصناعة على أنها تعتمد على التراب، ولا تحتاج إلى رأس مال كبير، مبينا أن المواد الأولية أصبحت غالية جدا وخاصة التراب.
وقال "صحيح، من يعملون بهذه الحرفة اليوم قلائل جدا، والعدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة"، مشيرا إلى أن قبل حوالي 50 عاما في حمص (وسط سوريا) وحدها كان هناك حوالي 60 حرفيا يعملون في الفخار، أما اليوم فبقي منهم اثنان فقط وعملهم متقطع.
وأكد الفاخوري أن الإنتاج يُسوّق محليا، مبينا أن بائعي الزهور يطلبون أواني فخارية ليضعوا فيها الورود، وتارة بعض المطاعم يطلبون أواني فخارية لتقديم الطعام، وأحيانا تصنع قطع فخارية للديكور. وشرح الفاخوري بإسهاب سير العمل، قائلا “ننقي التربة من الشوائب ونطحنها ونهزها بالغربال، ثم نرويها بالماء للتخلص من الحصى، فلا يبقى غير الصالح للاستعمال، وبعدها نعجنه، ونعطيه قساوة محددة من خلال زيادة كميات التراب".
وتابع "يرافق العملية فرك ودعك باليدين، بعد ذلك نترك العجينة تختمر ليوم واحد، ثم نشكل كل قطعة على الدولاب، وآخر المحطات هي فترة التجفيف الطبيعي، التي تستغرق أياما في الصيف، وربما شهرا في الشتاء، تختلف مراحل العمل تبعا لحجم القطعة، وتُنجز بعض القطع الكبيرة على مرحلتين، ليتم تجميعها تاليا".
وأشار إلى أن زمن الشيّ يختلف بحسب حجم الفرن وطبيعة الفخار، وغالبا ما يستغرق ثماني ساعات على الأقل، في درجة حرارة تتبدل بحسب نوع الشيّ، النوع البسيط (ويسمى البسكوت) يتطلب 800 درجة مئوية، أما الطناجر التي تُكسى بالزجاج فتتعرض إلى حرارة تتجاوز 1000 درجة.
وقال الحرفي فكري كركوس (63 عاما)، وهو من مدينة حلب ويقيم حاليا بدمشق، “أعمل بهذه الحرفة منذ نعومة أظافري، ورثتها من أبي وجدي، وهي مهنة تراثية وجميلة وفيها فن"، مؤكدا أن "الشخص الذي لا يمتلك موهبة لا يمكن أن يبدع فيها، والذي لا يحبها أيضا لا يمكن أن يصنع أواني فخارية جميلة".
وتابع "أنا أحببتها وصرت أجدد فيها وأدخلت عليها الكثير من الأشياء لتواكب التطور الحاصل حاليا مع المحافظة على روح المهنة التراثية"، مضيفا أن "الفخار له فوائد كثيرة للإنسان وخاصة الماء، والناس بدأوا يعون ذلك أخيرا، وراحوا ينظرون إليها على أنها صناعة ذات تاريخ عريق أولا، وفيها فائدة صحية للإنسان ثانيا".
وأضاف كركوس "بصراحة هذه المهنة مهددة بالانقراض ومن يعمل بها قلائل هذه الأيام، وأنا علمتها لأبني"، مؤكدا أن "الناس بدأوا يعودون إلى استخدام الفخار بعد أن وجدوا أن التيار الكهربائي غير متوفر حاليا بشكل كبير، وراحوا يستخدمون الفخار لتبريد الماء كحل وحيد".
وعبرت صفاء علي (43 عاما)، التي تزامن وجودها في ورشة الفاخوري سالم لشراء بعض الأواني الفخارية، عن سعادتها برؤية الأواني الفخارية الجميلة التي تذكرها بالزمن الجميل للأهل سابقا، قبل دخول الأواني المصنعة من الألومنيوم والمعادن الأخرى كأوان للطهي، مؤكدة أن العودة إلى استخدام الأواني الفخارية شيء إيجابي وصحي.
وقالت “هناك عودة إلى استخدام الأواني الفخارية لدى الكثير من السوريين، وهذه العودة ربما فرضتها الظروف الصعبة التي تعيشها البلاد، من نقص في التيار الكهربائي وعدم قدرتنا على استخدام الثلاجة لتبريد الماء، فكان الحل بالعودة إلى الجرة الفخارية وأباريق الماء التي تحتفظ بالبرودة لساعات طويلة”، مؤكدة أن هذه الصحوة وإن جاءت متأخرة لكنها صحيحة.
ودعت صفاء علي الناس إلى استخدام الأواني الفخارية في الطهي لأنها صحية وتعطي نكهة رائعة للطعام. وقال سليم الصالح، وهو صاحب محل لبيع الورود الطبيعية بضواحي العاصمة دمشق، "الكثير من الناس يرغبون في أن نضع لهم الورود في وعاء مصنوع من الفخار، وهذا الشيء يعطي جمالية خاصة للورد"، مؤكدا أن الأوعية البلاستيكية ضارة وأحيانا تؤذي النباتات، موضحا أن شكل الفخار جميل ويحتفظ بالبرودة لفترة طويلة. وشدد الصالح على أن ورش الفخار بدأت تصنع أشكالا مختلفة وجميلة لوضع الزهور ونباتات الزينة في تلك الأواني الفخارية.