العودة السعودية من بوابة باريس

في قائمة الدول الغربية التي يمكن من خلالها أن تعيد السعودية تأهيل صورتها، تبدو فرنسا الخيار الأفضل. ألمانيا مرتبكة بشكل كبير، سياسيا من باب الاقتصاد، وسياسيا مرة أخرى بسبب قدرة أطراف في الائتلاف الحاكم على التأثير على أي قرارات للحكومة تميل لصالح الرياض. الإعلام الألماني حاشية في المشهد الإعلامي العالمي. بريطانيا في حالة تخبط على مختلف المستويات، ولم تعد تلك القوة الكبرى التي تؤخذ في الحسبان. تأثير الاستثمار القطري في تشويه صورة السعودية في الإعلام البريطاني لا يزال محسوسا على الرغم من أن العلاقة بين قطر والسعودية هادئة وتسير نحو التنسيق المشترك. الصحافة البريطانية ذات ذاكرة استرجاعية لا تفوت الفرصة لإثارة القديم والجديد كلما قررت ذلك.
العودة من بوابة واشنطن لم تكن واردة. اختارت السعودية أن تعود أميركا إليها وليس العكس. الإدارة الأميركية لم تتوقف عن الإساءة للقيادة السعودية على مدى سنوات. وعندما قرر الرئيس الأميركي جو بايدن الذهاب إلى السعودية في محاولة لزحزحة موقفها من قضية الحرب في أوكرانيا وتزويد العالم بنفط أكثر بأسعار أقل، اخترع أحد خبراء العلاقات العامة حيلة المصافحة بالقبضات، وهو أمر غير مألوف ولا يمكن إلا أن يوضع في خانة المواقف العدائية. ثم بدأ طابور وصول المسؤولين الأميركيين إلى الرياض، من مستوى الممثلين الخاصين ثم الوزراء، وأخيرا مستشار الأمن القومي جيك سوليفان ووزير الخارجية أنتوني بلينكن. الحضور السعودي في الإعلام الأميركي فيه مد وجزر، ولا تزال اللغة العدائية هي السائدة. ستترك الرياض علاقتها مع واشنطن على الموقد الخلفي وعلى نار هادئة إلى حين تنضج الأمور في إدارة بايدن أو تستبدلها إدارة جمهورية. لا يوجد ما يدعو إلى الاستعجال.
◙ زيارة الأمير محمد بن سلمان لباريس طوت صفحة استهداف السعودية هذا الأمر اختفى تقريبا في الصحافة الفرنسية التي اهتمت بالزيارة وأعادت التركيز على ما حققه الأمير الشاب من إصلاحات بنيوية في بلاده
فرنسا، إذا، كانت الخيار المثالي. ضع المشاكل التي تواجهها بموضوع التقاعد وأزمات الأقليات المهاجرة الدورية، ستجد أن فرنسا اليوم هي المحرك النابض لأوروبا. الاقتصاد الفرنسي من أوائل الاقتصادات الغربية التي تعافت من كوفيد. الثقة الفرنسية وصلت إلى درجة أنها صارت تملي على بقية أوروبا قرارات التعامل مع البريطانيين في ملف بريكست. لا تتردد باريس في القول إن من الضروري أن يفهم العالم أنها تعاقب لندن على رعونة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
فرنسا، الدولة الكبرى بمقاييس اليوم، تقدم شيئا مهما للدول التي تتعامل معها. اختر أي صناعة إستراتيجية مهمة، ستجد أن للفرنسيين حضورا مهما فيها. من صناعة السيارات، إلى المفاعلات النووية، وصولا إلى نجومية منافسة إيرباص في إنتاج الطائرات، ستجد أن فرنسا حاضرة. خيار السلاح الفرنسي يبقى دائما موجودا عندما تتمنع الولايات المتحدة عن تزويد حلفائها بالسلاح لأسباب سياسية.
قد لا يكون الإعلام الفرنسي بقوة الإعلام الناطق بالإنجليزية في بريطانيا والولايات المتحدة، لكنه بالتأكيد إعلام فاعل لاعتبارات كثيرة. وكالة الصحافة الفرنسية هي مصدر الأخبار الثاني عالميا من بعد رويترز البريطانية، وقد أتقنت فرنسا لعبة الاهتمام بالعالم من خلال مشاريع إعلامية رصينة ومؤثرة خصوصا “فرانس 24” التي تتوسع وتسجل حضورا عالميا بأكثر من لغة في وقت تتعثر فيه مؤسسات صوت أميركا وبي.بي.سي. النسخة العربية من “فرانس 24” هي من الأكثر تأثيرا اليوم في شمال أفريقيا، في حين تنكمش الخدمات العربية المنافسة للمنابر التقليدية، وقرر بعضها الانسحاب تماما من المشهد. الإعلام الفرنسي يعرف أيضا متى يتوقف عن عدوانيته عندما تصبح مصالح البلاد على المحك. خبا التأثير القطري في فرنسا منذ مدة، خصوصا بعد أن وجدت الدوحة نفسها أمام المساءلة الصارمة في ملف العمال وحقوق الإنسان قبل وأثناء مونديال قطر 2022.
زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لباريس طوت صفحة استهداف السعودية وتشويه صورتها. بعض تقارير الإعلام الغربي لا تزال تتعمد ذكر جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، بمناسبة أو دون مناسبة. هذا الأمر اختفى تقريبا في الصحافة الفرنسية، التي اهتمت بالزيارة وأعادت التركيز على ما حققه الأمير الشاب من إصلاحات بنيوية في بلاده. لم يكن من باب المصادفة أن تتزامن زيارة الأمير محمد بن سلمان لباريس ولقاؤه بالرئيس إيمانويل ماكرون مع قمة “الميثاق المالي العالمي الجديد”. هذا تجمع لرؤساء دول وحكومات 50 دولة في مرحلة مهمة من مراحل الاقتصاد العالمي. لم تفصح السعودية ولا فرنسا عما دار بين الزعيمين من مناقشات تمس دور البلدين في “الميثاق”، لكن المؤشرات أكثر من واضحة. لا شك أن الكثير من الرسائل قد تم تمريرها خلال القمة، بما فيها رسائل سعودية لدول اعتادت تلقي المنح والقروض من الرياض مثل مصر، أو كان للسعودية تأثيرها المباشر عليها كما هو حال لبنان.
◙ العودة من بوابة واشنطن لم تكن واردة. اختارت السعودية أن تعود أميركا إليها وليس العكس. الإدارة الأميركية لم تتوقف عن الإساءة للقيادة السعودية على مدى سنوات
مشروع الإصلاح والتغيير في السعودية يتحرك بسرعة كبيرة.انقطع البعض عن زيارة السعودية خلال جائحة كوفيد، ثم عاد إلى زيارتها ليسمع قصصا مختلفة من السعوديين والمقيمين عن عمق التغيير، وليرى مشهدا اجتماعيا وحضريا مختلفا. في السعودية، تبدو القيادة متمكنة من توجيه دفة الإعلام لخدمة مشروعها الإصلاحي، لخدمته والتعريف به والدفاع عنه. لكن المشهد خارج السعودية مختلف، ويحتاج إلى الكثير من الجهد وإعادة تأسيس العلاقات والربط بين الإصلاح والتغيير الاجتماعي في السعودية بالعلاقة مع العالم والانفتاح عليه. في هذا تبدو فرنسا محطة مهمة لا يمكن الاستغناء عنها.
مَن يَقمْ بعملية جرد للعلاقة بين السعودية وفرنسا يلاحظ انعدام عناصر الاختلاف. لا يوجد تاريخ استعماري فرنسي في المنطقة ولا مهاجرون كما هو الحال مثلا مع الجزائر. فرنسا ماكرون، ومن قبله جاك شيراك وفرانسوا ميتران، بلاد طالما نسقت مواقفها بما يتطابق مع أولويات السياسة السعودية. حتى نقطة الاحتكاك المفترضة في لبنان أساسها رغبة فرنسا في أن تستعيد السعودية دورها هناك، وليس العكس. ومع سياسة حل الإشكالات الإقليمية، مع إيران والعراق وسوريا، تبدو السعودية عنصرا إيجابيا يمكن للفرنسيين أن يتوافقوا معه في مسعاهم لأن يكونوا قوة مؤثرة في المنطقة.
حققت زيارة الأمير محمد بن سلمان لباريس الكثير. ثمة جهد دبلوماسي محسوس اشتغل خلف الكواليس للوصول إلى نقطة التحول المهمة هذه. لذا يبقى من الضروري الاستمرار في البناء على ما تحقق، والاستثمار في المزيد.