تسوية أزمة المهندسين و"مستقبل وطن" بتنازلات متبادلة في مصر

تعامل هادئ للحكومة مع التوتر الذي حصل بعد مناوشات أنصار حزب “مستقبل وطن” المحسوبين على النظام وبين نقابة المهندسين، ما مكنها من تطويق مشكلة كانت ستتحول إلى أزمة للنظام مستفيدة من تفهم نقيب المهندسين طارق النبراوي.
قطعت الحكومة المصرية الطريق على أزمة نقابية كان يمكن أن تتصاعد كثيرا وتأخذ منحى سياسيا حادا عندما أوفدت وزيري النقل كامل الوزير والري هاني سويلم الخميس، للتصالح مع نقيب المهندسين طارق النبراوي الذي حاز على ثقة أعضاء الجمعية العمومية وتغلب على معارضة حزب “مستقبل وطن” له.
وأخمدت الوساطة التي قامت بها الحكومة أزمة كادت تسبب لها صداعا بعد أن قدم عدد من المهندسين بلاغات إلى النيابة العامة في بعض المنتمين إلى حزب “مستقبل وطن” الذي يمثل الظهير السياسي للحكومة، بتهم منها التخريب وممارسة العنف والاعتداء على موظفين عموميين، مصحوبة بصور وفيديوهات تظهر فيها شخصيات المعتدين بوضوح، من بينهم أربعة أعضاء في البرلمان عن مستقبل وطن.
ويُحسب للحكومة عدم مكابرتها، فاللجوء إلى الأدوات السياسية أفضل لها من الاستعانة بالخشونة في التعامل مع أزمة نقابة المهندسين بعد أن حازت جانبا كبيرا من اهتمام النخب والمثقفين والسياسيين والإعلام والرأي العام، وأظهرت جزءا مهما من العيوب التي يتمتع بها منتمون إلى الحكومة كانت تصرفاتهم ستلحق أذى سياسيا بالنظام كله.
وبدا أن الرئيس المصري عبدالتفاح السيسي أوعز للحكومة بضرورة حل الأزمة وديا والعمل على تبريدها ليؤكد انعدام صلته بما جرى من عنف ورفضه لنتيجة انتخابات جاءت على غير إرادة حزب محسوب عليه في المجمل، وبالتالي انحيازه لرغبات الناس مهما كانت انتماءاتهم السياسية ولو جاءت مغايرة لتوجهاته ينطوي على رسالة إيجابية تبعد بعض الشبهات الرسمية عما جرى في نقابة المهندسين.
وعبّر قيام الحكومة بإيفاد وزيري النقل والري، وهما من أعضاء نقابة المهندسين أصلا، للتفاوض مع النبراوي وأعضاء مجلس نقابته عن حنكة نادرة، وقدرة على امتصاص الصدمة والغضب والتعامل مع الموقف بواقعية لأجل تطويق الأزمة ومنع تصعيدها، والتخلي عن المعاندة التي كان يمكن أن تشعل النار في نقابة مهمة، ربما تخرج سخونتها من داخل جدرانها إلى الشارع عقب تفاعل قطاعات عريضة مع أحداثها.
وحققت وساطة الوزير وسويلم هدف نقيب المهندسين في قيام ستة من أعضاء هيئة المكتب في النقابة بتقديم استقالاتهم، وهم الجهة التي قادت جبهة الرفض للنبراوي وسعت لعزله بإجراء استفتاء نادر على سحب الثقة واستمراره أم لا، لكن الوساطة لم تفلح في الحصول على غرضها في تنازل النقيب عن بلاغاته للنيابة ضد عدد من أعضاء حزب مستقبل وطن.
وطلب النبراوي وقتا للتشاور مع أعضاء الجمعية العمومية لنقابة المهندسين للتنازل عن البلاغات، وهو ما يمكن أن يحدث قريبا، لأن الجزء الأول من الصفقة تحقق وقُبل من الجهة المعنية به، ولن يكون الجزء الثاني منها (التنازل) عصيا عن تحقيقه لتهدئة الأمور داخل نقابة عريقة تضم مئات الآلاف من الأعضاء.
وأبعدت الصفقة التي رعتها جهات حكومية شبح الاستهداف عن نقابة المهندسين التي تعرضت من قبل للتجميد وفرضت عليها حراسة لفترة طويلة في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، وأنقذها الحل الودي من إعادة تكرار هذا المشهد القاتم، لأن الحكومة لن تعدم الأدوات التي تمكنها من الوصول إلى هذا الغرض، والذي قد يفتح عليها معارك هي غير مستعدة لها في هذه المرحلة.
وتوقعت دوائر سياسية أن تلجأ الحكومة إلى هذا الخيار لتظهر قوتها وتتخلص من كابوس نقابة المهندسين الذي أخذ طريقا كشف عن قلة حيلة بعض المسؤولين في التعامل مع معارضيهم، غير أن اللجوء إلى حلول وفاقية أكد أن الحكومة قادرة على التعايش مع الآخر من دون عنف أو ألاعيب انتخابية.
وأجهضت التسوية الرضائية الكثير من الاستنتاجات السلبية التي راجت بشأن الاستعداد لإعلان موت نقابة المهندسين "إكلينيكيا" بعد صدامها مع مستقبل وطن. وجاء خيار الحكومة بالتفاهم من خارج الصندوق التقليدي الذي تستعين به في التعاطي مع المشكلات السياسية، ما يحسب لطبقة داخل النظام المصري لا تزال قادرة على التمسك بالحلول الناعمة والتخلي عن صدام كان يمكن أن يحقق الأهداف المرجوة منه في الفترة القريبة، إلا أنه على المدى البعيد سوف يجلب مخاطر جسيمة.
واستفادت الوساطة من المرونة المعروفة عن نقيب المهندسين، والذي يحرص دائما على أن يقدم نفسه كمستقل وليس محسوبا على تيار معين أو منتميا إلى الحكومة أو معارضيها، الأمر الذي مكّنه خلال فترة رئاسته السابقة للنقابة من العبور بها إلى بر الأمان وسط عواصف خطيرة، وسوف يمكنه في دورته الحالية من تحقيق الهدف ذاته، مستفيدا من المساحة الرمادية عند الحكومة للتوصل إلى حلول توافقية.
لن يتنازل النبراوي عن البلاغات الجنائية إلا بعد تأكده من جدية الوساطة الرسمية التي قادها وزيرا النقل والري وتنفيذ إرادة الجمعية العمومية للمهندسين والحفاظ على نقابتهم مستقلة عن جيوب الأحزاب السياسية وتكريس هيبتها، والأهم أنه قدم درسا قاسيا للنظام المصري الذي يستعين بأحزاب تضم أعضاء دون المستوى وإعلام مرتبك، في وقت تستعد فيه الدولة لاستحقاق الانتخابات الرئاسية بعد أشهر قليلة.
وتعد هذه المرة الثالثة التي يتعرض فيها النظام المصري لأزمة مع النقابات المهنية خلال فترة قصيرة، ويفضل الانحناء للرياح التي جاءت منها على الاشتباك معها. فقد نجح من قبل في إخماد ثورة نقابة المحامين عقب رفض الآلاف من أعضائها فرض رسوم جديدة عليهم عبر الفاتورة الإلكترونية، والتي قامت الحكومة بتجميدها إثر احتجاجات كبيرة من قبل المحامين أمام مقر نقابتهم في وسط القاهرة.
◙ هذه هي المرة الثالثة التي يتعرض فيها النظام المصري لأزمة مع النقابات المهنية خلال فترة قصيرة ويفضل الانحناء للرياح التي جاءت منها على الاشتباك معها
وتجرع سُما سياسيا من نقابة الصحافيين عندما خسر مرشح الحكومة خالد ميري أمام مرشح المعارضة خالد البلشي، وسعت أجهزة الدولة لاستثمار الحدث الجلل كدليل على مساحة الحرية في مصر، ووظّف عدم ممانعتها في التعامل مع نقيب معارض توظيفا رشيدا، لأنها رأت في خيارات الرفض عقبات يمكن أن تحرج النظام الحاكم.
وكشفت تطورات نقابة المهندسين عن تغيرات مهمة في المشهد السياسي، أبرزها توالي خروج النقابات تدريجيا من ربقة السيطرة الحكومية عليها السنوات الماضية، وإظهار قدرتها على إحداث حراك في الفضاء العام، ما يضع الحكومة في موقف لا تحسد عليه، إذ تشير تداعيات ما حدث في النقابات الثلاث لعدم القدرة على مواصلة التدجين.
وتبدو الدروس المستفادة من المصالحة في نقابة المهندسين كثيرة، في مقدمتها أن النظام المصري لا يحسن اختيار أدواته السياسية التي تتناغم مع أهدافه المتعددة، ولم ينتج نخبة مستقلة قادرة على حمايته في وجه معارضة تحرز نقاطا سريعة في الشارع وتزداد شراسة كل يوم وتكشف عورات الحكومة التي تنفذ أجندته.
وتشير الليونة التي خرجت بها الحكومة من مأزق نقابة المهندسين إلى نجاحها في استيعاب خصومها، فلماذا لا تدير الكثير من الأزمات مبكرا وتمنع استفحالها؟ ببساطة لأن هناك ثلة يغلّبون القسوة على التفاهم ويعتقدون أن التنازل ضعف والصفقات كسل، وهو خطأ منهجي ما لم يغيره النظام سوف يجعله يواجه تحديات أشد صعوبة في الفترة المقبلة.