الممنوعات السياسية تكبّل الإعلام المصري وتريح الإعلاميين

يعتبر الخوف من الوقوع في الخطأ، واختفاء الخطوط العريضة التي توجه إلى القيادات الإعلامية في قضايا عديدة، من بين أبرز العيوب التي حدّت من فاعلية الإعلام المصري، وجعلت الكثير من الوسائل الحديثة تسبقه وتحرجه.
القاهرة - كشف حادث الجندي المصري الذي قتل بسلاحه ثلاثة جنود إسرائيليين وجرح ضابطا قبل أيام اتساع نطاق اعتماد شريحة من المصريين على الإعلام الخارجي، سواء أكان إسرائيليا أم عربيا أم أجنبيا، فغالبية الروايات والمعلومات صدرت عنهم، واقتصر دور الإعلام المحلي تقريبا على نقل بيان المتحدث العسكري الرسمي الذي أثار التساؤلات أكثر مما قدم إجابات وتوضيحات حول الحادث.
وتتوالى التطورات من الجانب الإسرائيلي، بدءا من الإعلان عن اسم المجند المصري ونشر صور له وحتى خبر تسليم جثمانه للقاهرة، وهو ما تتناقله فضائيات ومواقع عربية وقامت بتغطيته وإخضاعه لدرجة عالية من التحليل السياسي، وسط غياب مصري كبير، باستثناء بعض المواقع المعارضة ومنصات التواصل الاجتماعي الشخصية التي تحولت إلى وجهة رئيسية لمتابعة الكثير من القضايا.
ولم يكن حادث الجندي الوحيد الذي كشف جانبا مهما من عورات الإعلام المصري، فالحرب الدائرة في الخرطوم زادت أوجاعه، حيث افتقر إلى المتابعة الدقيقة والعميقة للأزمة وتطوراتها، وتجاهلت معظم وسائل الإعلام تفاصيلها، على الرغم من خطورة انعكاسات هذه الأزمة على الأمن القومي المصري.
ولم يقتصر التعاطي مع الأمر على الانحياز إلى رؤية سياسية محددة، وقد يكون هذا طبيعيا في وسائل إعلام تحرص على مخاطبة الداخل، لكنه غير طبيعي عندما تكون موجهة إلى متابِع خارج الحدود، وحتى محليا لم يعد الجمهور شغوفا بالانسياق خلف رؤية واحدة، فالفضاء العام أصبح أمامه مفتوحا لسماع قصص مختلفة.
◙ معاصرو الإعلام المصري في أزمنة سابقة يترحمون على أوقات كانوا يعرفون فيها الموقف الرسمي من مقالات بعض الكتاب
ما جرى مع حادث الجندي المصري أو التعامل مع الأزمة السودانية لا يقتصر عليهما، فقد أضحت هناك منهجية وقاموس يتم استخدامهما في معالجة الكثير من التطورات المهمة، وثمة قائمة طويلة من الممنوعات لا يتم تحريكها كثيرا وتظل جامدة فترة ما لم تصل تعليمات مغايرة، منها ما يعلو أو ينخفض أو يبقى على حاله من الجمود.
وتلقت الكثير من وسائل الإعلام المصرية مع بداية الأزمة السودانية تعليمات تقضي بعدم الاقتراب، ومن يتابع ما نشر عنها في غالبية الصحف والمواقع والفضائيات في الأيام الأولى لاندلاعها لن يشعر بوجودها بشكل ملموس، واقتصر التعامل على التطورات وعدم الغوص في التفاصيل، إلى أن جرى تخفيف القيود قليلا في القاهرة وأصبح الرأي العام يجد تغطيات محتشمة لهذه الأزمة.
ليس السودان استثناء في المعالجات نتيجة حساسية ما تجاه الأزمة أو مواقف سياسية، فقائمة الممنوعات وصلت إلى عدم توجيه انتقادات إلى كل من تركيا والسعودية وقطر والإمارات والجزائر، وربما إثيوبيا، وحتى ليبيا لا توجد تغطيات للتطورات المتلاحقة في أزمتها تتسق مع أهميتها بالنسبة إلى الدولة المصرية، ناهيك عن إيران التي تصاعد الحديث عن علاقاتها مع مصر في إعلامها والكثير من وسائل الإعلام العربية والدولية، بينما في القاهرة يكاد الأمر يعتبر غير موجود أصلا، فلا توجد متابعات وتحليلات ومعالجات، سلبا أو إيجابا، لما صدر من تصريحات على لسان كبار المسؤولين في طهران، إلا في الحدود الضيقة، كأن لا شيء يحدث للجمهورية الإسلامية.
تمثل قائمة الممنوعات قيدا كبيرا على الإعلام وتحد من دوره وتمنح الفرصة لوسائل أخرى، من بينها ما هو معادٍ، لنشر وإذاعة معلومات مضرة بالموقف المصري، فالتجاهل الكبير لن يلغي الحدث أو يمنع التطور أو يوقف آخرين عن تناوله بالطريقة التي تتناسب مع أجنداتهم السياسية التي يمكن أن تضر بالمصالح المصرية.
واللافت للانتباه أن الكثير من الكتاب والمحللين في مصر يطلون من خلال وسائل إعلام عربية متباينة مكتوبة ومرئية ومسموعة ويتحدثون بدرجة عالية من الشفافية حول هذه القضايا التي صارت في حكم المحرمات داخل بلدهم، وغالبيتهم كتاب في صحف عريقة في القاهرة ولا يستطيعون الإدلاء بآرائهم التي يعلنونها خارجها، والأكثر غرابة أن بعضهم يتلقى ثناء على ما يقوله في وسائل إعلام عربية.
ويعد الخروج من هذه الحلقة أحد التحديات التي تواجه القائمين على الإعلام المصري، فاستمرارها يفرض عليه قيودا هو في غنى عنها، ولا تسمح بتطوره، فلم يعد ما يعرف بحارس البوابة يتحكم وحده في ما ينشر أو لا ينشر، وقد يتمكن من ذلك في الوسائل الخاضعة لسلطته، لكن لن يستطيع ذلك خارج حدود سيطرته الرسمية.
وتكمن المشكلة في أن مواصلة هذا الطريق تعيق عمل الإعلام المصري وتبدد بارقة الأمل التي ظهرت مع بث فضائية القاهرة الإخبارية كمحطة تعكس شعارها الرئيسي “القاهرة عاصمة الخبر”، ففي عدة مرات انفردت المحطة بأخبار مهمة، لكن السياسة التي تعمل بها قيدتها ولم تمكنها من مواصلة العمل على توظيف انفرادها عبر المزيد من التحليل والتفصيل.
وحققت هذه المحطة انفرادا مهما عندما كانت أول وسيلة تذيع خبر لقاء الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بنظيره التركي رجب طيب أردوغان في الدوحة، على هامش افتتاح فعاليات بطولة كأس العالم لكرة القدم في نوفمبر الماضي، لكنها اكتفت بإذاعة الخبر دون أن تقدم تحليلات لمعناه ومغزاه وتوقيته ومكانه وغير ذلك من الحيثيات.
◙ القيود الرسمية المفروضة على الإعلام تؤدي إلى تكبيله، لأن هناك الكثير من الأحداث التي يقود تناولها بصور مختلفة إلى خدمة الدولة
وحرمت المحطة من جني ثمار تطور مهم، كان يمكن أن يدفعها خطوات كبيرة إلى الأمام، خاصة أنه جاء عقب وقت قصير من انطلاقتها، وتركت فضائيات أخرى تشتغل على تداعياته، ما أنسى الكثيرين المصدر الرئيسي للخبر.
ومرت المحطة ذاتها بموقف آخر بعد اندلاع الأزمة السودانية عندما أجرت حوارا مهما مع رئيس مجلس السيادة السوداني وقائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان، أدلى فيه بمعلومات مهمة ونادرة وقيمة مهنيا، وهو ما استفادت منه محطات منافسة عندما تابعته وقامت بإخضاع ما كشفه من معلومات للتحليل.
وتؤدي القيود الرسمية المفروضة على الإعلام إلى تكبيله وليس السيطرة عليه، لأن هناك الكثير من الأحداث التي يقود تناولها بصور مختلفة إلى خدمة الدولة، فالرؤية الأحادية غير مقبولة في الإعلام الحديث، وإذا وجدها الجمهور سائدة سيقوم بتغيير المحطة أو قلب الصفحة إلى وسيلة تقدم له وجبة متكاملة فيها آراء متنوعة.
وقد يكون الكثير من المسؤولين عن إدارة الصحف والمواقع والفضائيات مرتاحين لصيغة السيطرة الكاملة، لأنها تعفيهم من تحمل مسؤولية أي معالجة خاطئة يمكن أن تغضب أصحاب السلطة مثلا، ويجدون في التقيد بالتعليمات وسيلة إنقاذ وظيفية لهم، بصرف النظر عن حجم الضرر الواقع على الدولة الذي يمكن أن يكون كبيرا، خاصة عندما يتعلق بقضايا يتم تجاهلها لعدم وجود تعليمات أو بوصلة ترسم الطريق.
ويترحم من عاصروا الإعلام المصري في أزمنة سابقة على أوقات كانوا يعرفون فيها الموقف الرسمي من مقالات بعض الكتاب القريبين من السلطة، وقد اختفت هذه الظاهرة، ولا يوجد قريبون من السلطة، والأخيرة تتعامل مع الإعلام على أنه وسيلة ضخ من أعلى إلى أسفل فقط، الأمر الذي أدى إلى تكلس الإعلام المصري، ولن يتخلص من ذلك إلا بإتاحة المزيد من الحرية في التطرق إلى القضايا والموضوعات المتنوعة وتقليل الحواجز والخطوط الحمر التي تكبله، لأنها تحمّل الدولة أكثر مما تحتمل، وتجعل كل ما ينطق به الإعلام، صوابا أو خطأ، في نطاق مسؤوليتها وحدها.