لعبة توزيع الأدوار في البرامج المصرية.. جهة تملك الإعلام توحي بأنها مع الحكومة وضدها

في الوقت الذي تخلت فيه بعض البرامج التلفزيونية عن انحيازها للحكومة المصرية على طول الخط، لا تزال عملية التغيير لم تلحق بالصحف والمواقع الإلكترونية التابعة للجهة ذاتها التي تملك وتدير وتسيطر على غالبية وسائل الإعلام التي وجدت أن تقديم الإيجابيات في وقت تزداد فيه معاناة المواطنين غير مقبول، ومن المهم إحداث تغيير يوحي بأن الإعلام قريب من الواقع وغير منفصل عنه.
القاهرة - اندهشت شريحة كبيرة من الجمهور المصري التي تتمسك بمشاهدة بعض الفضائيات المصرية بانتقادات حادة أطلقها الإعلامي خيري رمضان في برنامجه “حديث القاهرة” على قناة “القاهرة والناس” من استضافة الخبير الاقتصادي زياد بهاءالدين الذي وجه انتقادات قوية لأداء الحكومة في المجال الاقتصادي، وتقديم أفكار قيّمة للإصلاح.
مر حديث الخبير الاقتصادي، وبدا كأنه مر دون أن يراه الرقيب على الإعلام، لكن خيري رمضان كرر الموقف عندما وجه انتقادات قبل أيام لوزير الشباب والرياضة أشرف صبحي حول ما يدور في الكثير من القطاعات الرياضية، وأبرزها هروب لاعب كمال الأجسام أحمد بغدودة إلى فرنسا لعدم تقديره محليا، والتخبط الحاصل في تعامل الوزارة مع رئيس نادي الزمالك مرتضى منصور، وغيرهما من الملفات المثيرة.
بعد وقت قليل، ظهر وزير الرياضة على قناة “صدى البلد” مع الإعلامي أحمد موسى، وهو يدلي بحديث طويل حول موقفه من القضايا المثارة، بما يشير إلى أن الرجل بريء من الاتهامات الموجهة إليه، حيث أتيحت له الفرصة كاملة للإجابة حول ما يتردد بشأن إدارته للمنظومة الرياضية.
لعبة توزيع الأدوار تفتقر إلى الحنكة التي تتطلب ترك مساحة لبعض وسائل الإعلام للخوض بجدية في قضايا تشغل بال الناس فعلا، وتتجاوز مسألة المسكنات التي تفرضها تطورات يصعب تجاهلها
وبين الموقفين، المعارض والمؤيد، هناك صوت الإعلامية لميس الحديدي على قناة “أون” وتقدم “توك شو” يومي شهير، بدأت في الآونة الأخيرة تخفف من نبرة انحيازها للحكومة، وتوجه في ثنايا برنامجها انتقادات لها من وقت إلى آخر، لكن في المجمل لا تزال تحافظ على موقفها الداعم لسياسات الحكومة والنظام المصري برمته.
ويؤكد التغيير الطفيف في بعض البرامج بما يسمح بزيادة هامش الحرية في تناول بعض القضايا أن الطريقة التي كان يدار بها الإعلام ودرج فيها على المديح لكل تصورات الحكومة وتصرفاتها، غير حكيمة ولم تحقق أهدافها، فمن الصعب أن تتحدث عن إنجازات دوما والناس يشكون من أزمات اقتصادية طاحنة أو تتحدث عن سياسات إيجابية والكثير من رواد التواصل الاجتماعي يشيرون إلى عقبات وصعوبات عديدة.
انتقلت فكرة التنفيس السياسي من البرلمان إلى بعض وسائل الإعلام، وهي إشارة توحي بخطأ الممارسات السابقة التي اختزلت دورها في المديح فقط، وشعور بأهمية التوازن في المعالجات، خاصة أن بعض وسائل الإعلام، من فضائيات ومواقع إلكترونية في الداخل والخارج، بدأ الاقبال عليها يتزايد من المصريين الذين يريدون متابعة شؤون ما يدور في بلدهم، ويحرج نظيرتها التابعة للحكومة.
ويقول متابعون إن صيغة توزيع الأدوار التي يدار بها الإعلام، من قبل الشركة المتحدة، وتتراوح بين المعارضة والتأييد والحياد النسبي، كانت مفيدة سابقا عندما أتيح للبعض حرية حقيقية في الممارسة الإعلامية، ويمكن أن تكون مفيدة حاليا إذا كانت توافرت فرصة للعمل بلا اختيار قضايا بعينها للحديث وتجاهل أخرى حيوية.
ويتساءل المتابعون عن المساحة التي أتيحت لإعلامي مثل خيري رمضان، لماذا لا تتاح لغيره من الإعلاميين المخضرمين، لاسيما إذا كانوا جميعا يعملون تحت إدارة واحدة، وهو اختبار من مصلحة الشركة المتحدة أن تتجاوزه بنجاح، لأنها لن تستطيع التحكم في جميع وسائل الإعلام التي تعمل على يسارها أو يمينها.
ويشكك جمهور واسع في أداء بعض الإعلاميين الذين كالوا المديح للحكومة ثم ارتفعت أصواتهم لتوجيه انتقادات لها، ما يقلل من مصداقيتهم، إذ أن التغير المفاجئ أثار أسئلة حول أسبابه ودوافعه والمدى الذي يمكن أن يذهب إليه، في وقت لم تظهر تحولات في معالم المشهد الإعلامي، ولا تزال في نطاق أمنيات تراود البعض حول ضبطه بما يتناسب مع تحديات تواجهه وأفضت لإضعاف دوره بسبب انتقائيته المخلة.
وشهدت نقابة المهندسين حدثا مهما الثلاثاء تمثل في انتخابات على سحب الثقة من نقيبها المهندس طارق النبراوي، جاءت النتائج على عكس الاتجاه الذي تريده الحكومة، أي تجديد الثقة في الرجل بأغلبية كاسحة، تلتها أعمال عنف وبلطجة وتخريب صناديق الاقتراع بعد التأكد من فوز النبراوي، وهو ما وثقته صور وفيديوهات انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي.
صيغة توزيع الأدوار التي يدار بها الإعلام تتراوح بين المعارضة والتأييد والحياد النسبي، كانت مفيدة سابقا عندما أتيح للبعض حرية حقيقية في الممارسة الإعلامية
وتجاهلت وسائل الإعلام المصرية هذا الحدث المهم وكأنه لم يحدث في قلب القاهرة، ومن توقف عنده من صحف ومواقع إلكترونية وقنوات على يوتيوب قريبة من الحكومة قدمت رواية عكسية، تفيد بأن مصدر البلطجة أتباع النقيب المستفتى عليه (طارق النبراوي)، ما يعني أنه أراد معاقبة نفسه.
وتحولت هذه الرواية إلى مجال للسخرية على مواقع التواصل، وبدا تبنيها من بعض وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية دليلا جديدا على عدم التمشي مع معطيات التناول المهني، وإصرار على المضي قدما في طريق سابق تثبت الأيام خطورته على الحكومة والمزيد من تشويه صورتها ويقطع الطريق على محاولات ترميمها من خلال رتوش إعلامية تحوي انتقادات وربما اتهامات لبعض المسؤولين فيها.
وتفتقر عملية لعبة توزيع الأدوار إلى الحنكة التي تتطلب ترك مساحة لبعض وسائل الإعلام للخوض بجدية في قضايا تشغل بال الناس فعلا، وتتجاوز مسألة المسكنات التي تفرضها تطورات يصعب تجاهلها، لأنها تقضي على ما تبقى من مصداقية لدى الإعلام الحكومي، وتؤدي إلى تشويهه بما يجعل عملية إنقاذه لاحقا عملية عسيرة.
وتحدث قريبون من الحكومة عن تغييرات في القيادات المسؤولة عن المشهد الإعلامي منذ فترة دون رؤية نتيجة حقيقية لذلك، ما يشي بأن الحديث عن تغيير أو تعديل أو تطوير يقتصر على مدى الحاجة إليه والشعور بأن النسخ الموجودة على ساحة الإعلام لا تمثل إزعاجا كبيرا لأجهزة الدولة، أو أنها تخشى من مغبة التغيير.
وتمثل هذه المفارقة واحدة من التعقيدات التي حولت المشهد الإعلامي إلى لغز كبير، فهناك قناعة بعدم قدرته على تحقيق الأهداف المرجوة منه، وفي الوقت ذاته عدم استعداد للتغيير في مفاصله، خوفا منه أو لوجود مستفيدين من الحالة الراهنة، والتي سوف يؤدي تغييرها حتما إلى تغيير مماثل على أصعدة أخرى متعددة.
وينظر للإعلام في مصر في حالات الجمود والثبات والتغيير والتعديل والانفتاح النسبي والمحسوب، على أنه انعكاس للوضع السياسي، وما لم يتم الاقتراب من الأخير بما يجعله يتحرك للأمام ويتواءم مع ما يجري على الأرض من مطالبات بالتغيير سوف يظل الإعلام على تكلسه، وإن حاولت بعض البرامج تبني لهجة حادة ضد الحكومة ومسؤولين فيها، وأخرى واظبت على “الطبطبة” عليهم كنوع من التوازن، على أمل التحكم فيه، صعودا وهبوطا، وهي معادلة يصعب ضبطها فترة طويلة.