السعودية تجني ثمار النجاح قبل مواعيد القطاف

السعوديون يعيدون اكتشاف مخزون بلادهم الثقافي ومخزونهم السياحي مع الوافدين من خارج البلاد دون فذلكات فولكلورية أو شعوذات غرائبية كما يحدث في بلدان أخرى تقيم زواجا قسريا بين الماضي والحاضر.
الثلاثاء 2023/05/30
السياسة الثقافية في المملكة تستنهض إرثا تاريخيا لم يكن ملمّعا فيما مضى

السعودية أصابت كبد الحقيقة حين ربطت بين الثقافة والسياحة، وراهنت على هذا التوأم الإنمائي في خطتها ضمن رؤية 2030 التي نبتت أزهارها وأينعت ثمارها حتى قبل مواعيد القطف.

كل ما في الأمر أن جهات الإشراف والتخطيط في المملكة لم تفرّق بين مخزون ثقافي وآخر سياحي، ولم تفاضل بين كتاب وموقع بل ذهبت بعيدا نحو واقعية تربط الاجتماعي والثقافي لتصله مع المشروع التنموي في انسجام وتوافق دون نشاز.

ما يبحث عنه زوار البلاد من الأجانب، هو نفسه الذي يتعطش إليه أبناء البلد ويرومون تحقيقه، فترى الانسجام التام في حفل على المدرج الواحد أو نجاح وإقبال في ذات المعرض الواحد بين السائح الوافد وابن البلد، وقدا بدا الاثنان يجدان ضالتيهما في نفس المضمار والسياق، وبنفس الدهشة والبهجة والانشراح.

◙ المملكة نجحت في الرهان على الثقافة منذ سنواتها الأولى في رؤية 2030 لأنها بنت مشروعها على أسس علمية وواقعية، وحرصت على تناسي كونها بلدا بتروليا يمكن له أن يعتمد على اقتصاد ريعي

السعوديون يعيدون اكتشاف مخزون بلادهم الثقافي ومخزونهم السياحي وكنوزهم التاريخية مع الوافدين من خارج البلاد، دون فذلكات فولكلورية أو شعوذات غرائبية كما يحدث في بلدان أخرى تقيم زواجا قسريا بين الماضي والحاضر بغرض إعادة إنتاج الموروث الثقافي فلا تجد هذا ولا ذاك.

ما يميز السياسة الثقافية في المملكة أنها لم تكن متعالية ولا متدانية، وهي تستنهض الآن إرثا تاريخيا لم يكن ملمّعا فيما مضى من سنوات ثم استدركته الآن، ولم تستورده من الخارج.

الواقعية هي البوصلة، وكل ما في الأمر أنها نفضت غبار النسيان ـ أو التناسي ـ عن إرث ثقافي وطاقات كامنة في مجتمع كان ولا يزال حيويا ومنفتحا كأشد ما يكون الانفتاح مقارنة بباقي دول المنطقة.

المتابع للحركة الثقافية في السعودية منذ عقود، يعرف أن البلاد تزخر بطاقات مذهلة في الفكر والآداب والفنون، لكنها ظلت كامنة وتفتقر لمن يكشف عنها لا أكثر ولا أقل.

منْ من المهتمين بالحركة التشكيلية لا يعرف أسماء “مرعبة” في هذا المجال، ولامست العالمية، ومن من قراء الأدب لا يتذكر قامات مدهشة يصعب الإلمام بها كلها.. وقس على ذلك في شتى الفنون والمعارف والمهارات.

المشكلة إذن، لم تكن في غياب هذه المواهب، وإنما في غياب من يعرّف بها ويقدمها.. وقد حان الوقت الآن لتدارك تلك الأخطاء المجحفة وتقديمها كما هي عليه ليس إلا.

كل من يزور المملكة الآن من دارسين وباحثين ومستكشفين يصاب بدهشة مزدوجة، أولها الكنوز الأثرية والمشاهد الطبيعية على الأرض، وثانيها الطاقات الإبداعية والفنية المتميزة بسعة الاطلاع، أما ما يجمع بين هذا وذاك فهو الإدارة والإتقان والتخطيط.

لا شيء يثير الحسرة في نفس كل متابع للنهضة الثقافية والسياحية في المملكة غير القول: لماذا كان هذا التأخير؟

ومهما يكن من أمر فإن جهات إشراف في السعودية قد تداركت الموقف، سارعت في الخطى ولم تخسر ما كادت تضيعه أثناء سنوات التراخي التي استغلها أصحاب الفكر المتشدد لصالحهم في وقت من الأوقات.

◙ ما يميز السياسة الثقافية في المملكة أنها لم تكن متعالية ولا متدانية، وهي تستنهض الآن إرثا تاريخيا لم يكن ملمّعا فيما مضى

ثمة مناجم شبه بكر ودائمة التجدد مازالت تنتظر السعوديين وينتظرونها، واسمها الاستثمار في الثقافة والسياحة على حد سواء، ودون فصل ما بين هذين المجالين الواعدين.

يكفي وعلى سبيل المثال لا الحصر، أن يعدّ مشروع القدية، في العاصمة الرياض، أكبر مدينة ثقافية رياضية ترفيهية ينتظر أن يصبح معلما حضاريا بارزا ومركزا مهما لتلبية رغبات واحتياجات جيل المستقبل الترفيهية والثقافية والاجتماعية في المملكة.

من جانب آخر وكجزء من الإستراتيجية الثقافية، أطلقت منصة “أبدع” التي تفتح باب الشراكة مع القطاع الخاص وتقدم الدعم والتمكين للمشاريع الثقافية التي من شأنها أن تصبح عاملا مؤثرا في الاقتصاد الوطني ضمن رؤية 2030.

سبب هذا النجاح يعود إلى كون هذه المشاريع في أيد أمينة، على عكس بلدان عربية أخرى هدرت طاقاتها وإمكانياتها المحدودة في سبيل مشاريع طيبة النوايا لكنها سيئة الإدارة والتسيير من قبل القائمين عليها.

ما يمكن قوله في تونس مثلا، والتي ظلت إلى وقت قريب نموذجا يدعو عرب كثيرون للاقتداء به على صعيد التنمية الثقافية، أن تلك الجذوة قد خبت بفعل أياد مرتعشة وأخرى غير أمينة.

وظل اتكال المثقفين في تونس على الدولة والتعامل مع وزارة الثقافة كبقرة حلوب أو دجاجة تبيض ذهبا إلى أن أصبح بعضهم يتكالب على ذبحها.

◙ السعوديون يعيدون اكتشاف مخزون بلادهم الثقافي ومخزونهم السياحي وكنوزهم التاريخية مع الوافدين من خارج البلاد، دون فذلكات فولكلورية كما يحدث في بلدان أخرى تقيم زواجا قسريا بين الماضي والحاضر

ولطالما تعاونت السعودية مع تونس في المجال الثقافي، لكنها استفادت من أخطائها ولم ترض أن تعطي بسخاء غير مدروس وغير محسوب العواقب فربطت القطاعين الثقافي والسياحي بالاقتصاد الوطني، وأشركت القطاع الخاص في الأمر فكانت النتيجة سريعة وذات فائدة، بدليل أنها بدأت تجني ما خططت له في وقت مبكر.

والغريب أن بلدا محدود الموارد الطبيعية مثل تونس، كان قد راهن على الثقافة منذ قيام دولة الاستقلال، وأوجد لها روافد كثيرة تبدأ من مجانية التعليم وتعميمه على حساب قطاعات أخرى، يعيش اليوم “خيبة المسعى” بسبب حالة الجمود في المناهج، وكذلك الروح الاتكالية التي لم تسمح بها السعودية وحرصت على إلحاق الثقافة بالعجلة الاقتصادية، وهي البلد الغني الذي ساهم في تأسيس وتمويل اليونسكو بعشرات الملايين من الدولارات.

كثرة الدلال ولّدت الانحلال وأفسدت المشهد الثقافي في تونس.. كلمة أقولها ثم أمضي وأنا بكامل قواي العقلية مع كامل حرصي واهتمامي الدائمين بتعافي الحركة الثقافية في هذا البلد الذي ما فتئ يفتخر بمنجزاته الإبداعية وإشعاعه المعرفي.

المملكة نجحت في الرهان على الثقافة منذ سنواتها الأولى في رؤية 2030 لأنها بنت مشروعها على أسس علمية وواقعية، وحرصت على تناسي كونها بلدا بتروليا يمكن له أن يعتمد على اقتصاد ريعي، وإنما ربطت كل القطاعات بخطة شاملة معتمدة على إمكانيات وطاقات كامنة تستلهمها من تاريخها وثقافتها.

9