جدل مشاركة المعارضة في الحوار الوطني وانسحابها منه بمصر

التفاهم بين السلطة والمعارضة يوفر فرصة للإصلاح السياسي.
الأحد 2023/05/21
حوار لأجل الحوار

الحوار بين المعارضة المصرية والنظام يراوح مكانه. كل يريد تجييره لفائدته. فالنظام يريد تنفيس الضغوط عليه بالإيحاء بعملية انفتاح على الخصوم، والمعارضة ترى أنها يمكن أن تستفيد من الضغوط على النظام لتحقيق مكاسب لنفسها.

تؤكد الخبرة المصرية في مقاطعة قوى المعارضة للكثير من الفعاليات السياسية التي تعقدها السلطة أن الحصيلة تأتي دائما مخيبة للآمال ومتدنية للطرفين، فلا الأولى تنجح في الضغط على الثانية وتجبرها على التخلي عن تصوراتها القاتمة وتليين مواقفها، ولا الثانية تتمكن من هزيمة الأولى وتجعلها تقترب من رؤيتها.

جاءت النتيجة في معظم الجولات التي ظهرت فيها مفاضلة بين المشاركة والانسحاب، في الحوار الوطني، والاستفتاءات، والانتخابات، غير جيدة للطرفين على مدار عقود طويلة، إلى الدرجة التي تأكد فيها كلاهما من حاجته السياسية إلى الآخر، فالمعارضة لن تستطيع إحداث تغيير ولو محدود يمكّنها من أن تصبح طرفا مؤثرا في المشهد العام بسبب تآكل غالبية أحزابها، والسلطة سوف تبدو كمن يقهر المعارضة ويغرد بمفرده في الساحة السياسية ولا تستطيع الحديث عن مجال واعد للحريات في الدولة.

عاد الجدل حول المشاركة والانسحاب مع انطلاق الحوار الوطني الذي دعا إليه الرئيس عبدالفتاح السيسي منذ حوالي عام، واتخذ الترتيب له وقتا طويلا للتوافق حول أجندة توافقية للحوار بين السلطة والمعارضة، وخلال هذه المدة بلغت أمور الصعود والهبوط، والقبول والرفض، والمراوغات والمساومات، أشدها بين الجانبين وحاول كلاهما اختبار مدى قدرة الآخر على تحمل الضغوط ليحدد السقف النهائي لمطالبه.

وبدت المسألة سجالا بين فريقين، كلاهما يملك أدوات ضغط معينة، وعلى الرغم من ضعف وسائل المعارضة وقلة حيلتها السياسية، إلا أن الضعف وقلة الحيلة تحولا إلى قوة في يدها، وذلك في اللحظات التي كانت السلطة تشعر فيها بالحاجة إلى شكل ديمقراطي يخفف عن كاهلها بعض المناوشات الخارجية التي اتخذت من ملف حقوق الإنسان والحريات العامة والإصلاح السياسي مدخلا لإحراج النظام المصري.

◙ النظام المصري استفاد من أخطاء الأنظمة السابقة في التعامل مع المعارضة بأنواعها، وحاول تجنب العيوب في التعاطي معها وتدجينها

فهمت بعض الأحزاب وقوى المعارضة حاجة السلطة إلى الانفتاح على أنها تملك “شيكا على بياض” فيمكنها وضع القضايا التي تريد إدراجها على أجندة الحوار الوطني، وأغراها التجاوب النسبي معها على المبالغة في مطالبها، وهو ما تعاملت معه السلطة بطريقتها، فما تعطيه باليد اليمني كانت تأخذه وربما أكثر باليد اليسرى.

تعتبر المعارضة أن ملف الإفراج عن المئات من المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي والقبض على آخرين بتهم مختلفة، ازدواجية وتضاربا في مواقف أجهزة الدولة وأحيانا يتم الحديث عن صراع أجنحة داخل السلطة، وكلها تقديرات ساذجة تشي بفهم قاصر للأدبيات السلطة في مصر، وهي تنطوي على لعبة توزيع أدوار أكثر من كونها ازدواجية وتضاربا وصراعات أجنحة، لأن القائمين على الحوار يريدون القول لأحزاب المعارضة لن تحصلوا إلا على ما نجود به عليكم.

من هنا تأتي مفارقة أخرى أشد غرابة في نظر من تابعوا تطورات الحوار الوطني وفصوله المترنحة، فإذا كانت السلطة غير مستعدة لتقديم تنازلات لماذا تدعو المعارضة للحوار معها، وإذا كانت الأخيرة تعلم أن النظام لن يمنحها ما تريده فلماذا الدخول في لعبة خاسرة لعض أصابع سوف تتفوق فيها السلطة باقتدار.

تبدو قواعد اللعب مفهومة مسبقا، وكل طرف يعلم المسموح والممنوع، لكن لأن عناصر القوة الكاملة لا تستطيع تحقيق النصر على الدوام، فقد يتحول الاستثمار في الضعف إلى وسيلة لتقليل الخسائر، فالسلطة لديها من أدوات القوة ما يساعدها على التنكيل بالمعارضة بسهولة، غير أن هذه السياسة يمكن أن ترتد عليها حتى ولو تمكنت من تقويض عناصر القوة المعنوية والفئوية التي تملكها المعارضة، ما يجبرها على تصوير الأمر أن للأخيرة أظافر قد تدمي بها، ولا سبيل سوى بالحوار معها.

يؤدي التضخيم المعنوي المتعمد لبعض قوى المعارضة إلى شعورها بأهميتها أمام الشارع، وتندفع نحو الحصول على أكبر قدر مما تتخيل أنه مكاسب تساعدها على محو عجزها طوال سنوات طويلة ماضية استسلمت فيها للسلطة، طوعا أو قسرا، وتحولت كياناتها إلى وحدات للعمل الأهلي أكثر منها مقرات لأحزاب سياسية.

نجت أحزاب وشخصيات قليلة من دهس السلطة وإغراءاتها، وما تبقى منهما يحاول الحفاظ على قدر من تماسكه الرمزي، ومع أن هناك أكثر من مئة حزب تحظى بشرعية قانونية، إلا أن المعروفين والفاعلين بينها لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة أو أكثر قليلا، وهؤلاء هم أصحاب الصوت العالي في الحوار الوطني، والذي يدور انقسام بينهم حول المشاركة فيه والانسحاب منه من حين إلى آخر.

استفاد النظام المصري الراهن من أخطاء الأنظمة السابقة في التعامل مع المعارضة بأنواعها، وحاول تجنب العيوب في مسألة التعاطي معها وتدجينها واستقطابها وحجب الأطر التي كانت تتغذى عليها ممثلة في النقابات والندوات والتظاهرات والاحتجاجات والأنشطة الطلابية في الجامعات والحرية في وسائل الإعلام الخاصة.

حرم سد المنافذ في كل هذه القنوات المعارضة من أدوات حضورها في الشارع، مع ذلك لم تستطع السلطة الاستغناء عن المعارضة، وتحول ما كان يسمى في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك “أحزاب ورقية أو كرتونية” كنوع من الإشارة لضعفها إلى “اللاأحزاب” عقب غلق عناصر التغذية التي كانت تتغذى عليها في الشارع.

بعد أن تمكنت السلطة الحالية من فرض سيطرتها على مقاليد الأمور في الفضاء العام، شعرت بأهمية الحاجة إلى قدر من التنفيس السياسي وهي لا يساورها انزعاج كبير من المساحة التي يمكن أن تمنحها للمعارضة من خلال الحوار الوطني أو عبر وسائل الإعلام، ففي النهاية النتيجة سوف تحسب لها وقد تساعد على تجميل صورة الدولة في الخارج، وأنها على عكس ما يقال حول تأميمها الفضاء العام.

◙ الأزمة لدى المعارضة تكمن في شكوكها في حسن نوايا السلطة وعدم قدرة أحزابها (المعارضة) على إحداث حراك سياسي يسهم في منحها مساحة أكبر للحركة

تكمن الأزمة لدى المعارضة في شكوكها في حسن نوايا السلطة، وعدم قدرة أحزابها (المعارضة) على إحداث حراك سياسي يسهم في منحها مساحة أكبر للحركة في الشارع، ولذلك انتصر التيار الذي يميل نحو تفضيل خيار المشاركة في الحوار على الانسحاب، فالخيار الأول يبقي الأمل حاضرا على حصد مكاسب، لأن السلطة في حاجة إلى عدد من الأصوات المعارضة التي تمنح طعما لأيّ لحن سياسي تقدمه.

وتعتقد قوى في المعارضة أن البراغماتية السياسية أو ما يعرف بقاعدة “خذ وطالب” وسيلة جيدة في الحالة المصرية، فلو بقيت المعارضة عشرات السنين على حالها لن تتمكن من تغيير المعادلة بسبب تراكمات طويلة من الأمراض نخرت هياكلها، وعليها التعامل مع الأمر الواقع، لأن المرونة التي أبدتها السلطة حتى الآن في الحوار الوطني مفيدة ويمكن البناء عليها والحصول على نتيجة إيجابية أكبر مستقبلا.

يسهل على المتابع للمشهد المصري من الخارج أن يتهم السلطة بالتشدد أو يقذف المعارضة بالضعف، لكن إذا تمكن من مراجعة العلاقة بينهما على مدار الـ72 عاما الماضية يستطيع فهم عوامل التشدد وأسباب الضعف، وهي عقدة تضرب الأجواء العامة في مصر، فما لم يتغير جوهر المعادلة وتصبح هناك قواعد جديدة لها من الصعوبة رؤية تحول حقيقي في العلاقة بينهما.

فقد ينفضّ الحوار الوطني قريبا وتذهب معه أو تستمر مسحة الأمل التي أطلقها وتبقى المشكلة موجودة، وهي متى تثق السلطة بالمعارضة وتدرك أنها بلغت سن الرشد وعليها أن تعتمد على نفسها، وكيف تنجح الأخيرة في تشكيل هياكل ناجحة لقوى وطنية وليست انتهازية، ما يوفر فرصة جيدة للإصلاح السياسي.

4