الوردة الشامية تزهر في لبنان

إذا كانت دمشق هي مهد الورد الشامي فإن أهالي المناطق الشرقية من الجار لبنان قد زرعوا الورد في بساتينهم وقطروه ليستعملوه في منازلهم ويوفّروا بعض المال للعائلة من خلال بيع ما فاض من المنتوج.
قصرنبا (لبنان) - مع شروق الشمس يشقّ قرويون طريقهم إلى منحدرات جبلية خضراء يكسوها اللون الزهري، ليبدأوا أيامهم الربيعية بقطاف الورد الشامي العطر، وجمع المحصول بعناية في أكياس تزنّر خاصرة كل منها.
بفارغ الصبر تنتظر زهراء السيد أحمد (37 عاماً) موسم قطاف الورد الشامي في قريتها قصرنبا في شرق لبنان، لتشتري كميات ضخمة منه وتحوّلها إلى ماء الورد أو مربى الورد أو شراب الورد.
تُغرِق يداها في الورد وتقول ضاحكة “حين نقول صباح الورد، فهذا هو صباح الورد الحقيقي”، بينما تفوح رائحة زكية في الأرجاء.
وتضيف “ليس هناك ما هو أجمل من الورد، موسم قطافه هو أجمل موسم في قريتنا. قصرنبا هي قرية الورد”.
وتعد سوريا المجاورة المصدر الأساسي للوردة الشامية التي تعود زراعتها إلى آلاف السنين، وقد أغرت كلّ من مرّ بالأراضي السورية، فنقلها إلى أوروبا بشكل كبير الصليبيون منذ مئات السنين وسار على خطاهم الفرنسيون خلال فترة الانتداب في النصف الأول من القرن الماضي.
وتتميّز الوردة الشامية برائحة نفاذة زكية. و في الشرق، إضافة إلى استخدامها في تركيب العطور، تُستخدم في صناعة الحلويات كما في تعطير المساجد. وتعدّ في بعض الدول جالبة للحظ وخصوصاً في الأفراح. وتُستخدم أيضاً في المستحضرات الطبية الطبيعية ومستحضرات التجميل وفي صناعة الصابون.
الوردة الشامية تُستخدم أيضاً في المستحضرات الطبية الطبيعية ومستحضرات التجميل وفي صناعة الصابون
على شرفة منزلها في قصرنبا تضع زهراء أوراق الورد في قِدر ضخم، وتضيف إليها المياه لتبدأ عملية التقطير التي تستخدم فيها آلة تقطير قديمة ورثتها عن جدها.
وتكاد تجزم بأن هناك آلة لتقطير الورد في كل بيت في قريتها الصغيرة، سواء أكانت هذه الآلة كبيرة أم صغيرة. وتقول “صناعة ماء الورد جزء من تراثنا”.
وتضيف “نصنع من الورد المياه المقطّرة ونجفّف أوراقه لاستخدامها في الزهورات التي تحتسى مثل الشاي، ونصنع منه أيضاً مربّى الورد” الذي يستخدم في تزيين الحلويات العربية على نطاق واسع، كما يقوم الصيادلة ببيع الورد الشامي المجفف لما له من فوائد طبية متعددة.
ويُنتج كل كيلوغرام من الورد نصف لتر فقط من ماء الورد الذي تحفظه زهراء في عبوات زجاجية تعرضها للبيع.
وفي حقل عائلتها في قصرنبا لا تفارق الابتسامة وجه ليلى الديراني (64 عاماً) أثناء انهماكها بتنقية الورد بعناية.
بعد القطاف الذي يستمرّ بضع ساعات في الصباح الباكر، تنقل ليلى وأفراد عائلتها أكياس الورد إلى مستودع في القرية حيث يبيعون حصادهم من الموسم الذي يدوم بضعة أسابيع فقط.
ورغم أن الموسم قصير فإن تلك الأسابيع القليلة كفيلة بأن تجعل القرية أشبه بخلية نحل.
الوردة الشامية تُستخدم في صناعة الحلويات كما في تعطير المساجد
وتقول ليلى “يمنح الورد الأمل؛ المشهد يجعل كلّ شيء أجمل، يريح نفس الإنسان ويمنحه القوة”.
وتضيف “جميل أن تصنع ماء الورد وتعمل في الوقت الباكر، كما أن ماء الورد الناجم عن القطاف الأوّل هو الأفضل، لكن الأسعار لم تعد مناسبة في هذه الظروف الصعبة”.
وتدوم عملية التقطير عدة ساعات، تبدأ من ساعات الفجر الأولى، حيث يوضع الورد داخل “الكركة” مع الماء، ويحكم إقفالها بعجينة الرماد والطحين، وتشعل النار تحتها.
وفي انتظار القطرات الأولى تراقب ليلى “الكركة”، كي تضيف الماء لمنع الجفاف بعد تبخر جزء منه، وفي الأثناء تتفنن ليلى في تزيين العبوات الزجاجية.
ويروي حسن (25 عاماً)، بينما يساعد والدته ليلى في قطاف الورد، أنها “المرّة الأولى التي لا نستعين فيها بعمال لمساعدتنا، لأن الإنتاج قليل ولا يمكننا تحمّل التكاليف”.
وأضاف “موسم القطاف تأخر قليلاً هذا العام بسبب الطقس الخريفي السائد، لأن الحرارة المرتفعة تسرّع عملية تفتح الورد”.
وعلى وقع الانهيار الاقتصادي الذي يعصف بلبنان منذ عام 2019، لم تتمكّن العائلة حتى من توفير الأسمدة اللازمة لضمان موسم قطاف جيّد.
ويقول مختار القرية ضاهر الديراني “خسر موسم قطاف الورد، كغيره من المواسم الأخرى، ثمانين في المئة من قيمته جراء الأزمة” بعدما زادت أسعار الأسمدة ومواد الرش وحتى أجور اليد العاملة، فيما بقيت الورود رخيصة الثمن.
وبالرغم من الظروف الصعبة مازال موسم قطاف الورد، حيث يتم تحصيل مئتي طن في قصرنبا وقرية تمنين الفوقا المجاورة، يريح عائلات القرية بعد فصل شتاء قاس.
ويقول المختار “في الظروف الصعبة ساعد الورد الناس على وضع الطعام على طاولاتهم”.