نوري الجراح حنجرة الباحثين عن أمل

بصدور كتاب “الأفعوان الحجري” يكون نوري الجراح قد أكمل مرثيته الطويلة التي استغرقت كتبا عديدة وحياة كاملة انتقل بها إلى زمن ملحمي سيكون عليه في ما بعد أن يؤثثه بالمزيد من الحكايات الملهمة والألم العصي على الوصف.
لم تعد القصيدة تكفي. “لن أستطيع في حياة واحدة أن أحبك”. تصلح تلك الجملة لوصف علاقة نوري بالشعر. ليس لديه وقت ولا مكان يصلحان لكتابة الشعر. كل الأوقات وكل الأمكنة للشعر. ولكنه يفكر في الشعر بقدر ما يكتبه. لا رغبة منه في التنظير بل لا يرغب سوى في الإمساك بعصا التجربة الإنسانية التي ما من كتابة من غيرها.
أصوات المعذبين
القصيدة بالنسبة إلى نوري الجراح حياة تعج بالتجارب الإنسانية. وهو ما يعني أنه يعيش القصيدة قبل أن يكتبها. لذلك يحتاج المرء إلى أكثر من حياة ليكون شاعرا. ولكن نوري الذي يتقدم بشاعره على صفاته كلها ليس شاعرا فقط. إنه شاعر وناثر وناشر وصحافي وناشط وصانع مناسبات أدبية.
بقدر ما يهب الشعر كل حواسه ورؤاه بقدر ما يحمل نفسه مسؤولية رعاية ما يكتبه الآخرون في المجلات التي أسسها بشغف غير محدود وفي أدب الرحلات الذي صار بفضل جهوده ركنا أساسيا في الثقافة العربية المعاصرة.
“قصيدتي مدينة أصوات في عالم تهدمت مدنه” يقول نوري الجراح بعد أن نشر ثلاثة مجلدات من الأعمال لشعرية. لقد أكمل مراثيه غير أن أصوات المعذبين لا تزال تطارده. إنه رسولهم على الأرض. قيامته قيامتهم وهو الماشي إلى الموت بقدمي طفل إلى الحافات “مع كل قصيدة جديدة هناك تجربة انتحار” يقول. في كل مناسبة ألتقيه فيها يخبرني بأن الشعر هو الخلاص. ولم يشعر بالإحباط.
حامل مصباح القصيدة
صداقته هي محيط شعري لا يتعب المرء من الغوص فيه أو النظر إلى أفقه اللانهائي. ليست لديه فسحة من الوقت للكلام عن قصيدة كُتبت بل هو لا يكف عن الحديث عن قصيدة لم تُكتب بعد. أحلى ما فيه أنه ينحاز إلى الشعر وليس إلى أسلوب بعينه. لذلك تمتد خارطة ذائقته على القارات الشعرية كلها من نزار قباني إلى توفيق صايغ مرورا بخليل حاوي وسعدي يوسف ومحمود درويش. كلما ذكرت له اسما لشاعر حقيقي لمعت عيناه كما لو أنه يهب الصمت مديحا.
لو نظرت إلى تلك الأعمال الشعرية والنثرية التي أنجزها لدُهشت. لابد أن يكون الجراح قد استدان أوقاتا من أجل إنجاز كل هذا. يحتاج المرء إلى حيوات مضافة ليكون نوري الجراح.
ولد نوري الجراح في دمشق عام 1956، بداية ثمانينات القرن العشرين انتقل إلى بيروت وعمل في الصحافة الثقافية. أدار تحرير مجلة “فكر” قبل أن ينتقل إلى قبرص.
عام 1986 انتقل إلى لندن. ساهم في تأسيس مجلة “الناقد” التي صدرت ما بين عامي 1988 و1993. بعدها أسس مجلة “الكاتبة” التي استمر صدورها سنتين. إلى جوار ذلك أسس جائزة الكاتبة للرواية. بعدها أسس مجلة “القصيدة”. وأخيرا أسس مجلة “الجديد” التي يشرف الآن على تحريرها. “الجديد” التي تصدر عن دار العرب تقترب من عددها المئة. هناك أيضا مجلتا “الرحلة” و”دمشق” اللتان لم يصدر منهما سوى عدد واحد.
صانع المجلات عمل في الوقت نفسه في مجلات أسبوعية وصحف يومية عديدة منها “الحوادث” و”الشاهد” و”الحياة” و”العرب”. ذهب في ما سمي بالعشرية الدامية إلى الجزائر وكتب من هناك لحساب جريدة الحياة مجموعة كبيرة من المقالات الاستقصائية التي جمعها في ما بعد في كتاب “الفردوس الدامي”، الذي صدر على شكل كراسات منفصلة بالفرنسية ثم صدر بالعربية عن دار رياض الريس عام 2000.
منذ نهاية التسعينات يشرف الجراح على المركز العربي للأدب الجغرافي/ ارتياد الآفاق وجائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي.
سيرة نوري الجراح تجمع بين الشاعر والكاتب الصحافي والناشر. فإلى جوار عمله في النشر أصدر حوالي عشرين كتابا شعريا بدأها بـ”الصبي” الذي صدر عام 1982. كما صدر له أكثر من عشرة كتب نثرية بين الكتابة الاستقصائية وتحقيق كتب الرحلات التراثية.
نال الجراح جائزة الدولة لأدب الأطفال في قطر عام 2008 عن كتابه “كتاب الوسادة”.
صدرت كتبه الشعرية مترجمة إلى الإنجليزية والفرنسية والتركية والفارسية والإيطالية واليونانية ولغات أخرى.
حظي شعر نوري الجراح باهتمام نقدي لافت وصدرت عن تجربته الشعرية كتب عديدة، منها “أمير نائم وحملة تنتظر” لعلي بدر و”رسائل أدويسيوس” لخلدون الشمعة و”ابتسامة النائم” لمحسن خالد و”القصيدة المعلقة” لمفيد نجم و”النزوع الدرامي في شعر نوري الجراح” لأيمن باي و”ما الذي يحدث في حدائق هاملت” لعبدالوهاب الجموسي و”شعرية البقع الأرجوانية” لمحمد صابر عبيد و”ألواح أورفيوس” لناهد راحيل.
ولكن لماذا يثير شعر نوري الجراح اهتمام النقاد؟
لا لسبب بعينه لأن كل الأسباب خلقت من نوري الجراح قبل شعره صانع مصير لا تفارقه الرغبة في التجدد ومواصلة التحول ومواكبة المتغيرات. ولأنه كان ولا يزال شاعرا قبل أي شيء آخر فقد امتزجت حياته بشعره فصار الواحد منهما مرآة للآخر.
لو قلنا “نوري يكدح عن طريق الشعر” لكانت تلك العبارة هي الأكثر تعبيرا عما يقوم به. فحنجرته مليئة بصراخ حارثي الأمل. يذهب إلى أقصى الأرض من أجل أن يمحو اليأس عن وجوه رأى فيها وجهه. محارب شعري يبحث في التاريخ السوري عن محاربين شقوا الآفاق وحملوا حجارة تدمر معهم إلى الأراضي التي وصلوها.
الشعر جملة غامضة
“الشعر نهر ولآلئه أسماك هاربة. هو بحر وأصداف ولآلئ. فلا صيد ولا فوز بلؤلؤة من دون ذائقة هذبتها دربة للقراءة واستعداد للانفتاح على التجارب الشعرية في تعدد مرجعايتها واختلافها الفني وقارئ مغامر” يقول.
“ولكن ما الشعر يا نوري؟”.
سيجيبك بكل ما يملك من خزين لغوي ويحيلك إلى حياته بكل ما تخللها من عصف وفتنة ومقاومة وشهوة ومواجهة وهروب وحوار مع الذات ومع الآخر. الشعر بالنسبة إليه هو كل شيء. حياته من الداخل وما يحيط به. ما يراه وما يحلمه. ما يفهمه وما يعجز عن تفسيره. ولكنه في الأساس الجملة الغامضة التي تكشف عن عبقرية اللغة.
كلما اقترب الجراح من الملحمة كان يخلي القصيدة من عناصر بنيتها التقليدية. حتى الصورة الشعرية لم تعد تلهمه. صار الإيقاع يأتي من جهة مجهولة. ولكنه لا يمل من البحث عن ذاته في خضم العصف الذي يخلقه بحثه عن الآخرين وهو يلوح بخشبة الخلاص. ربما علمته المأساة السورية أن قوارب الموت التي هي قوارب نجاة هي الأخرى نوع من الشعر الذي لا يمكن كتابته. أليس الشعر هو ما لا يُكتب؟ قبل قصيدته يصل نوري إلى الجزر التي يقيم فيها الغرباء باحثا عن قصيدة لم تُكتب.
