ثلاثية احتواء المعارضة وإقصائها وتهميشها في مصر

فتح القبض على الطبيب هاني سليمان بسبب مقالات وجّه فيها انتقادات للنظام المصري الباب للنقاش حول الطريقة التي يتم بها الفرز بين المعارضين، وهي طريقة تعتمد على مدى القرب من النظام أو التفهم ولو نسبيا لأوضاعه، وبين الراديكاليين الذين لا يبدون أي تعاطف.
لا يوجد نمط واحد لتعامل الحكومة المصرية مع المعارضة، حيث كشفت خبرة السنوات الماضية عن وجود ثلاث آليات رئيسية تحكم العلاقة مع الجماعات والأحزاب والأفراد، نجحت الحكومة في التمييز بينها، وهذا لا يعني عدم وجود خلط أو تداخل بينها، فالفوارق نسبية ويمكن أن تكون طفيفة أحيانا، وربما يقدم معارض على تصرف بسيط ويلقى عقابا كبيرا، أو يقدم على تصرف كبير ويلقى تسامحا، فالمحدد الذي يتحكم في شكل التعامل هو الأرضية التي ينطلق منها الشخص أو الحزب أو الجماعة.
تدور الآليات الثلاث في فلك: الاحتواء والإقصاء والتهميش، ولم تتمكن الحكومة من السيطرة على المعارضة وإسكات صوتها تماما بعد أن تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى متنفس واسع للمحرومين من التعبير عن آرائهم في وسائل الإعلام التقليدية، ولذلك تراقبها الحكومة وتعتمد عليها للفرز والتمييز بين الألوان المختلفة، وكان أصعبها اللون الرمادي الذي يتّبعه البعض ويضاعف من صعوبة تحديد الهوية السياسية، فأصحابه يؤيدون ويعارضون، ويقفون على أرضية متذبذبة.
وفتح القبض على الطبيب والكاتب هاني سليمان بسبب مقالات كتبها على صفحته الخاصة في فيسبوك وجه فيها انتقادات مباشرة للنظام المصري، الباب للنقاش حول الطريقة التي يحدد بها المعارض، لأن هناك من وجهوا انتقادات لا تقل قسوة ولم يقترب منهم أحد بسوء ولا زالوا طلقاء ويمارسون هوايتهم في نقد النظام المصري.
يفرق متابعون بين الانتقادات الحادة النابعة من موقف أيديولوجي صارم يضرب في عظام النظام الحاكم ولا يرى فيه ميزة سياسية، وبين من يوجهون انتقادات تتعلق بتصرفات ومواقف محددة تحتاج إلى تصويب، تركز على السطح الظاهر ولا تشكك في المضمون الكامن، وتفسر هذه التفرقة لماذا اعتقل هاني سليمان ولم يعتقل غيره.
احتوت الحكومة المصرية عددا كبيرا من أسماء الشباب الذين انخرطوا في ثورة يناير 2011 التي أسقطت نظام الرئيس حسني مبارك، وطوقت أيضا بعضا من الرموز الشبابية في ثورة الثلاثين من يونيو 2013 التي أسقطت الرئيس الإخواني محمد مرسي، وتركت أسماء هنا وهناك، وأصبح من جرى احتواؤهم نجوما في وسائل الإعلام وانخرطوا في أحزاب جديدة مؤيدة للنظام وحصلوا على عضوية البرلمان.
بدا الاستعداد للاحتواء والقابلية أن له مؤشرين للحصول على مزايا مادية ومعنوية، وأعضاء هذا الفريق انتشروا في أماكن عدة وحصدوا مكاسب متنوعة، وأصبح تأييدهم فجا ومبالغا فيه أحيانا، لأنه لم يتولد عن قناعة وجاء انطلاقا من تحقيق أهداف آنية، تلاقت مع من جنّدوهم وحوّلوهم إلى كتيبة مؤيدة للنظام، لا يجرؤ أحدهم على توجيه نقد من باب تصحيح خطأ أو حفاظا على المصالح البعيدة للدولة.
على النقيض من هؤلاء، لم يقتصر الإقصاء على عدم الاستعانة بالفريق الآخر وإجباره على الانزواء، لكن تم إلقاء القبض عليهم بتهم متباينة، معظمها حملت شعار الانتماء لجماعة إرهابية (الإخوان) ونشر أخبار كاذبة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وداخل هذه الفئة يدور سؤال محوري، لماذا تم الإفراج عن معارض وبقي آخر، مع أن الاتهامات قد تكون متشابهة؟
خرج من السجن زياد العليمي وحسام مؤنس وهشام فؤاد، ولا يزال قابعا داخله علاء عبدالفتاح وأحمد دومة ومحمد أوكسجين، وخرج المهندس يحيى حسين عبدالهادي والصحافي عبدالناصر سلامة والمستشار هشام جنينة، ودخل هاني سليمان أخيرا.
قد يعتقد البعض أن المسألة تتم بصورة عشوائية، وهذا غير صحيح، فالمحدد الذي يلعب دورا في الإفراج مدى تفهم الأوضاع العامة التي تمر بها الدولة المصرية، لأن من لم يتم الإفراج عنهم لا يبدون استعدادا طفيفا للتوافق السطحي، أو قدرة على استيعاب الأجواء العامة وطبيعة المرحلة وما تفرضه من طقوس وممارسات استثنائية، بالتالي لن تتغير قناعاتهم بسهولة، ولن يقبلوا بصيغة وسط في المعارضة أو يوافقوا على إجراء مراجعات لأفكارهم السياسية.
أضف إلى ذلك أن بعضهم أصبح أدوات في يد بعض الحكومات ومنظمات حقوقية دولية ويتم توظيفهم للضغط على النظام المصري، فقد كادت القاهرة تفرج عن الناشط علاء عبدالفتاح قبل أشهر، غير أن الحملة العنيفة التي ظهرت أثناء مؤتمر المناخ بشرم الشيخ في نوفمبر الماضي أسهمت بشكل مباشر في تعطيل عملية الإفراج، فإذا تم في حينه لفُهم أن الضغوط تجلب نتائج جيدة مع السلطات المصرية.
ويصعب وضع معايير نهائية للإفراج عن بعض الأسماء من عدمه، فهناك مساحة من التسامح يتمتع بها النظام المصري بالتوازي مع الخشونة والتشدد في القضايا السياسية، ويتوقف تغليب إحداها على تفهم الشخص المعارض للمنطق المعمول به، فقد عادت أسماء مصرية من الخارج ملأت الدنيا ضجيجا مثل المهندس ممدوح حمزة والمخرج خالد يوسف، ولم يعد آخرون، وما نقله كلاهما عن تعامل الأجهزة الأمنية معهما يؤكد وجود ضوء في نهاية النفق، وأن ثمة معايير يتم مراعاتها في التسامح.
لم يعد عدد كبير ممن أفرج عنهم مؤخرا كما كانوا في شراستهم السابقة، وبدت معارضتهم ليّنة إلى حد بعيد، فرئيس حزب الدستور السابق خالد داوود بعد تجربة السجن الأخيرة ثم الإفراج عنه يختلف أداؤه السياسي عما كان قبلها، ما يشي بأن مرارة التجربة والظروف القاسية التي تحيط بها تجبر البعض على عدم تكرارها، أو أن هناك صيغة للتفاهم تجري في الخفاء مع السلطات الأمنية لتقنين المعارضة.
المحدد في الإفراج هو مدى تفهم الأوضاع التي تمر بها الدولة، ومن لم يتم الإفراج عنهم لم يبدوا استعدادا للتوافق
يمكن أن تكون فكرة التقنين الحل السحري أو الوسيلة التي تؤدي إلى تقريب المسافات بين معارضين ونظام حاكم ينزعج من التمادي في انتقادات ربما تفضي إلى تعميم الانفلات في صفوف المعارضة وتتحول إلى مرض يقود إلى فوضى.
الواضح أن كل من أفرج عنهم ممن يندرجون تحت لائحة معارضة أساسيين أو ثانويين بفكرة التقنين، وهو دليل على أن الرفض القاطع للمعارضة تراجع مع تدشين الحوار الوطني الذي دعا إليه الرئيس عبدالفتاح السيسي ومشاركة عدد من رموز المعارضة فيه، ثم منح لجنة العفو الرئاسي دفعة سياسية قوية، إلى جانب التطور الرسمي في آليات التعامل مع ملف حقوق الإنسان، ناهيك عن التخلص من كابوس الإرهاب وقطع أوصال جماعة الإخوان في الداخل.
بين الاحتواء والإقصاء تأتي الفصيلة الثالثة، ويوصف أفرادها بـ”المهمشون”، وهؤلاء ملح الإعلام والحياة السياسية في مصر، لأن تأييدهم للنظام الحاكم أو معارضتهم ينطلقان من مسؤولية وطنية خالصة، لذلك لا يتم المساس بهم أو معاقبتهم أو الاقتراب منهم أو الاستعانة بهم، ويمثلون ذخيرة جيدة عندما يتغير المناخ العام لصالح النظام المصري أو في غير صالحه.
هم مأمونون إلى حد بعيد ولا خير منهم أو خوف عليهم، لأن طريقتهم لا تمثل إزعاجا في الوقت الراهن، وينتمون إلى الطبقة الوسطى بانحيازاتها الاجتماعية ومواقفها السياسية وحساباتها الاقتصادية، وتهميشهم لا يعني التخلي عنهم، ففي لحظة نضج يمكن أن يصبحوا في صدارة المشهد ومخرجا من مأزق عميق، لأن عداواتهم محدودة ولم يتم تلويثهم بسبب الانضمام للموالاة والحصول على مكتسبات، أو بسبب تبنيهم صوتا معارضا صاخبا خارج عن المألوف.