الفانوس المصري ينتعش بسبب شح الدولار

حرفيون صبروا على أوضاعهم الصعبة يجنون ثمار غياب البضاعة الصينية.
السبت 2023/04/08
تنفس الصعداء

استثمر أصحاب ورش تصنيع الفوانيس المصرية التي كانت على وشك الإغلاق والإفلاس أزمة نقص الدولار في زيادة معدلات التصنيع وإنعاش السوق المحلية بعد سنوات من الفشل في منافسة نظيرتها المستوردة، خاصة القادمة من الصين، وبات من الصعب استيراد مثل هذه السلع أمام شح العملة الأجنبية فانتعشت هذه الصناعة في مصر بالتزامن مع شهر رمضان.

القاهرة - لأن صناعة الفانوس تعتمد على الصبر والنفس الطويل، لم يتسلل اليأس إلى العم عاطف جمال لغلق ورشة تصنيع الفوانيس التي ورثها عن والده، ومع أنه كان شاهدا على تصفية الكثير من الورش وغلق أبوابها بسبب انخفاض معدلات شراء الفانوس المصري والاتجاه إلى المستورد، إلا أن الأمل كان يراوده في انتعاشة جديدة.

حصد عاطف ثمار صبره، هكذا تعلم من والده الراحل، حيث زاد نشاط ورشته في تصنيع الفانوس المصري أمام شح الدولار وعجز التجار عن استيراد الفوانيس من الخارج، واضطر أصحاب المحال التجارية إلى الاعتماد على الفانوس المصنع محليا، مع عرض المستورد المتبقي من سنوات ماضية.

في زقاق ضيق بمنطقة “تحت الربع” الواقعة في منطقة الجمالية وسط القاهرة، جلس العم عاطف داخل ورشته الصغيرة ذات الجدران القديمة ممسكا بمطرقة صغيره يدقها على قطع نحاسية ليشكلها على هيئة فانوس على نار هادئة.

كان الشارع الذي يحتضن مصدر رزق الرجل الخمسيني يعج بورش صناعة الفوانيس، لكن أغلبها جرى إغلاقه واتجه أصحاب المهنة إلى حرف أخرى أمام زحف التجار إلى الفوانيس المستوردة وكساد حركة البيع خلال الأعوام القليلة الماضية التي ضربت فيها جائحة كورونا ضربتها القوية، وكان أشدها وقت فرض حظر التجوال.

الشيء الوحيد الذي منع عاطف من السير على درب زملائه من الذين هجروا المهنة، أنه لا يستطيع العمل في حرفة غير صناعة الفوانيس النحاسية، فهي جزء من تاريخه وشخصيته، والفانوس في نظره رفيقه في الحياة “حتى لو صنعته ولم أستطع بيعه”، كما يقول.

صناعة النفس الطويل

حرفة الصبر
حرفة الصبر

صانعو الفوانيس الذين صبروا على أوضاعهم المأساوية يجنون حاليا ثمار النفس الطويل، هكذا يفتخر الرجل بنفسه لأنه لم يستسلم أو يرفع الراية البيضاء أمام هيمنة الفانوس الصيني على السوق المصرية في السنوات الماضية، وبدا كأنه سعيد بأزمة شح الدولار وتعطل استيراد منتجات كثيرة من بينها الفانوس الصيني.

لدى عاطف ثلاثة أبناء ذكور يعملون معه، يقول “أرغب في توريث الصنعة لهم، أريدهم أن يحبوا الفانوس المصري ويكون جزءا من حياتهم، وكي لا أبني مستقبلهم على فشل، قمت بتوزيعهم على صناعة الفوانيس بأشكالها المختلفة، بحيث إذا اختفى فانوس بمرور الزمن فوانيس شقيقه تستمر”.

ويعمل الابن الأكبر مع والده في تصنيع وبيع الفوانيس النحاسية، والثاني متخصص في تصنيع فانوس الخيامية (المصنوع من القماش)، والثالث يتفنن في صناعة الفانوس الخشبي، وقال متفاخرا “نجحت في أن أجعلهم هواة في صناعة الفوانيس لما ورثوا حب الفانوس منّي، حتى صاروا يشكلونه بمزاج”.

ولا يستعين أيّ من صانعي الفوانيس النحاسية في مصر بمعدات حديثة في عملية التصنيع، فالأهم من الآلة اليد السحرية التي تشكل وتلون وتتفنن في التصميم.

إذا جالست واحدا من هؤلاء الهواة لدقائق معدودة تراه يتعامل مع الفانوس بطريقة توحي وكأنه يرسم لوحة ويتغزل في قوام الفانوس ويرسمه في عقله قبل تنفيذه.

جيل جديد
جيل جديد

أكثر ما يثير الخمسيني رجب عثمان، وهو الذي استثمر أيضا أزمة الدولار ووقف الاستيراد لتنشيط العمل داخل ورشته القديمة، أن توقف استيراد الفانوس الصيني يتزامن مع ظروف معيشية بالغة القسوة على المصريين، حتى سقط الفانوس من حسابات شريحة معتبرة أخيرا.

هكذا حال كل أصحاب الورش، وليس عاطف أو رجب فحسب، وهما لا يهتمان بحركة البيع ويصران على الاستمرار في الإنتاج حتى الأيام الأخيرة من شهر رمضان، فهناك تجار يقومون بشراء الفوانيس وتخزينها للسنة المقبلة، تجنبا لارتفاع أسعارها مستقبلا، ثم أن بعض الدول الإسلامية تستورد الفوانيس المصرية وتتعاقد عليها مبكرا للسنة المقبلة.

ولا يمانع أصحاب ورش تصنيع الفوانيس المصرية أن يتحصلوا على 20 جنيها فقط (حوالي 70 سنتا) كربح من بيع الفانوس طالما أن حركة الإنتاج تضاعفت، لكن ذلك يرتبط بمعدلات الشراء في الأسواق طوال رمضان والأيام التي تسبقه، وغالبا ما يهبط سعر الفانوس مع بدء العد التنازلي لانتهاء شهر الصيام.

ويرتبط سعر الفانوس النحاسي بالحجم والطول والتصميم، وما إذا كان تصنيعه يسمح بتركيب مصباح كهربائي (لمبة) أم لا، حيث يترك الحرفي مكانا صغيرا وسط الفانوس مع بعض الفتحات الأخرى في الجوانب على هيئة نجمة أو هلال إذا رغب المشتري أن ينيره من خلال مصباح وسلك كهربائي.

ورغم أن “العرب” جالست العم عاطف فترة قصيرة لم تتجاوز النصف ساعة، لكنه نجح في إنجاز فانوسين، أحدهما يبلغ طوله نحو 25 سنتيمترا، والثاني يصل إلى 30 سنتيمترا، فهو طوال الوقت ينهمك في المهنة حتى وهو يتحدث، لا يهدأ ولا يكل أو يظهر عليه الإرهاق، ويرغب يوميا في تصنيع أكبر عدد ممكن من الفوانيس.

جاءت أزمة نقص الدولار في مصر وتوقف استيراد بعض الرفاهيات ومن بينها الفانوس الصيني لتمثل للعم رجب عدالة السماء، معقبا “نحن تعبنا في المهنة هذه، حتى أصبحنا أساتذة فيها، وللأسف، ننتظر الأزمات لنعود لإحيائها من جديد رغم أننا نحن الذين علمنا الكثيرين تصنيع الفانوس الرمضاني”.

يتذكر الرجل وقت جائحة كورونا وانغلاق العالم على نفسه وتوقف حركة الاستيراد، قائلا “كنا محتكرين للسوق بالفانوس المصري، وكان هناك ناس يصدرونه إلى دول الخليج وأوروبا، لأن الصين كانت فيها أزمة الفايروس محتدمة، وجاء الوقت الذي رجعنا نسترجع فيه نفسنا لما حصلت أزمة شح الدولار، وأصبح شغلنا الحلو مرتبط بأزمة عالمية”.

ما يلفت الانتباه أن ثمة تغييرات في هيئة الفانوس المصري، فهناك من يقوم بتصنيعه بطريقة تقترب بعض تفاصيلها الداخلية من الصيني في تركيب جهاز صغير يصدر الأغاني الرمضانية الشهيرة مع التطوير في الألوان والرسومات الخاصة بالهيكل، وهو ما يفسره عاطف بـ”فن إدارة الأزمة”.

يشرح ذلك بالقول “ماذا يحتاج الزبون من الفانوس الصيني، يحتاج أغنية، يحتاج أنوارا خارجة من الفانوس، يحتاج شكلا حديثا. نحن نعمل لنصنع له ما يريد، ونوصل رسالة للمستورد والمشتري أن مصر فيها أساتذة في صناعة الفانوس، المهم أن تنتعش المهنة كما كانت”.

تعديلات طفيفة

فانوس حسب الطلب
فانوس حسب الطلب 

ساهمت الإضافات التي أدخلها المحترفون في صناعة الفوانيس في زيادة نسبية بحركة البيع. فالفانوس المصري يحتفظ بهويته وهيئته، لكن مع تعديلات طفيفة في المضمون الداخلي من خلال قوالب صوتية لأغان تراثية تبعث البهجة والسرور في نفوس الأطفال على وجه الخصوص.

كل ما في الأمر أن صاحب الورشة يقتني شرائح صوتية جاهزة للتركيب فقط، ويقوم بوضعها أسفل الفانوس في خانة مخصصة للشريحة، إذا ضغط عليها الطفل تصدر منها أغان تراثية مرتبطة بشهر رمضان مثل “وحي يا وحوي”، “مرحب شهر الصوم مرحب”، وهكذا. المهم أن يكون التصميم ثابتا، مع إضافات مبهجة.

وهناك هدف آخر لأصحاب الورش من وراء التعديلات العصرية على الفانوس المصري، يقول العم رجب “الصينيون نشروا وأذاعوا أن الفانوس المصري أخرس وعبارة عن هيكل، لا لون ولا حركة ولا صوت، احنا قررنا نقول لهم لأ. بقينا نصنع فانوس يغني ويرقّص الأطفال، بس الشكل لن يتغير لأنه تاريخ”.

وهناك فوانيس صينية لا تزال تباع في بعض الأسواق، لكنها على هيئة لعب أطفال، وليس فانوسا بالمعنى الحرفي، فالكثير من أصحاب الورش رفضوا تسميتها بالفانوس، فهي بالنسبة إليهم مهينة ومسيئة للفانوس ورمزيته وتاريخه وهيبته وشموخه.

على مقربة من الأب عاطف، هناك الابن عادل الذي امتهن صناعة الفانوس القماشي، لكنه يبيع أكثر من والده، يقول مبتسما “الفانوس الخيّامي شكله مبهج، على مستوى الألوان والرسومات، وله زبونه، لأن شكله يفرح بألوان الزاهية في البيت والشارع، نحن متخصصون في صناعة البهجة”.

ولم ينكر عادل أن توقف استيراد الفوانيس من الخارج زاد من حركة بيع وشراء نظيرتها المصرية، لكنه يردد نفس عبارة الأب “شغلنا أصبح مرتبطا بأزمة”، معقبا “لا يصح لبلد علمت الدنيا كلها صناعة فانوس رمضان أن تستورد لعبا بلاستيكية وتقول عليها فوانيس، هذا يضربنا في مصدر رزقنا”.

وأصدرت الحكومة المصرية قرارا عام 2015 بحظر استيراد الفوانيس من الخارج لتشجيع المنتج المحلي، لكن عادل يرى أن تلاشي الفانوس الصيني يرتبط بأزمة استيراد وليس بسبب قيود حكومية، ملمحا إلى عمليات تهريب كانت تتم سابقا عبر بعض المستوردين، وغض طرف من قبل بعض المسؤولين عن تطبيق قرار منع الاستيراد.

آخر الصبر فرج

تنفس الصعداء
الفانوس المصري يحتفظ بهويته وهيئته مع تعديلات طفيفة من خلال إضافة أغان تراثية تبعث البهجة والسرور في نفوس الأطفال

يتذكر الابن، وقت أن كان يلح على والده كثيرا لإغلاق ورشة صناعة الفوانيس النحاسية والعمل في حرفة أخرى، لكن الأب رفض بشكل قاطع، واليوم أدرك أن والده كان على صواب “كسبنا جيدا، وحركة البيع زادت بشكل معقول، لكن لا بد أن يكون الفانوس المصري هو الأساس في السوق طول الوقت”.

ويستنكر عادل عدم وجود مدارس لتعليم صناعة الفانوس المصري، والتعامل مع المهنة كقيمة تراثية لا يجب تحت أي ظرف أن تندثر بمرور الزمن، ولا يصح أن تُغلق غالبية الورش لشعور أصحابها بأنهم بلا قيمة، “لكن الناس معذورون لأن الحكومة لا تحميهم من السلع المستوردة التي تسبب الضرر للفانوس المصري”.

شعور الابن بالنسبة إلى الإرهاق مغاير عن ذلك الذي يعانيه الأب عند صناعة الفانوس الخيامي، فهو لا يحتاج إلا دقائق معدودة للانتهاء منه عبر تشكيل أعواد رفيعة من الحديد على هيئة فانوس ثم يقوم بلصق القماش الملون بالأحمر أو الأزرق المزركش على أطراف وجوانب الحديد عبر لاصق شمعي.

الحرفيون يقاومون اندثار مهنتهم بابتكار تصميمات عصرية لفوانيس منقوشة بخط اليد ومكتوب عليها عبارات محددة

أقصى سعر للفانوس الخيامي لا يتجاوز مئتي جنيه (نحو 7 دولارات) في مناطق الجمالية والسيدة زينب والأزهر بالقاهرة حسب الطول، وبذلك يرتفع الثمن عن العام الماضي بنسبة تقترب من 40 في المئة لارتباط ذلك بزيادة أسعار القماش، وخامات الحديد، لكن يتمسك معظم التجار بتحقيق هامش ربح بسيط، لزيادة معدلات البيع.

وتكمن أمنية الابن في ألا يأتي اليوم الذي يترك فيه مهنة تصنيع الفوانيس، حيث يتمسك بأمل انتعاشها، كما كان والده يحفزه طوال الوقت “عندنا الفانوس النحاسي والخشبي والخيامي، وعندنا أشكال تراثية على هيئة مجسمات لشخصيات رمضانية تاريخية، المفترض بالمنطق نحفز صناعتها ولا نقضي عليهم”.

في الماضي القريب، كان يتم استيراد المجسمات الكرتونية من الخارج، لكن هناك ورش محلية صارت تقوم بتصنيعها بأيادي من ورثوا المهنة عن أجدادهم ونقلوها لأبنائهم، ومن هذه المجسمات “بوجي وطمطم”، “عمو فؤاد”، “فطوطة”، “عم شكشك”، وهي مناسبة كلعب للأطفال تغني وترقص.

وبلغ إصرار أبناء المهنة على الوقوف ضد محاولات اندثارها محليا بابتكار تصميمات عصرية لفوانيس منقوشة بخط اليد ومكتوب عليها عبارات محددة، وفق ما يطلب المشتري، كأن يرغب الرجل في مهاداة زوجته بمناسبة شهر رمضان، ويتم تصميم الفانوس والنقوشات واسم الزوجة بتلك الهيئة.

يعتزم أصحاب الورش المتبقية لصناعة الفوانيس المصرية التمسك بالمهنة مهما كانت الصعوبات، فهم الذين أصبحوا يمارسونها كجزء من معركة البقاء وتكفيهم حركة الأفراد في الأزقة القريبة من ورشهم ولو اقتصرت على الفرجة والتسكع والاستمتاع بأجواء رمضان، حيث يعتبرونها شعاع أمل لاستعادة الفانوس المصري هيبته.

16