محمد بناني رسام الشمال المغربي الشغوف بالمواد

الفنان التشكيلي الراحل اختار أن يجتاز لعبته مع الحياة من خلال الألوان فأقام في مواده التي قرر أن تكون جزءا من مصيره.
الأحد 2023/04/02
ما الذي يبقى منه بعد رحيله

برحيل الفنان محمد بناني يكون الرسم الحديث في المغرب قد فقد واحدا من أهم بناته ومؤسسيه.

ينتمي بناني إلى الجيل الذي ظهر في سبعينات القرن العشرين محملا بأحلام التغيير انطلاقا من الانفتاح بالهوية المحلية على مرجعيات عالمية. كان ظهور ذلك الجيل قد أحدث تحولا عظيما في طرق الرؤية الفنية.

المولع بالمواد

عام 2005 أقام بناني معرضه الخامس والعشرين. في ذلك المعرض كان هناك جانب جمعه بالمصور الفرنسي جان كلود لافيت. إذ قام لافيت بتصوير لوحات الفنان المغربي وإدخال لمسات فنية عليها عن طريق الكومبيوتر ومن ثم إنشاء نسخ رقمية منها. من تلك الخطوة بدا واضحا أن الرسام الذي بدا تجريبيا مغامرا ومتمردا في سبعينات القرن العشرين بطنجة لا يزال مقيما في مغامرته البصرية.

بوكس

شغف بناني بالمواد دفعه إلى استعمال التراب والرمل والحجر في إنشاء سطوح لوحاته فكان بمثابة الأب لكل التجارب الفنية التي قامت من بعده على أساس العلاقة بين المادة والسطح.

بالنسبة إليه لم يكن السطح مجالا تتحرك فيه الأشكال وتشتبك منسجمة ومتناقضة، بل هو جزء من ذلك الصراع الذي يشهد على حيوية اللوحة.

ومن صلته بالمواد اخترع نظريته الخاصة بعلاقة المكان بالألوان التي تطغى على اللوحات. فعلى سبيل المثال يغلب الأزرق والأبيض على رسوم رسامي الشمال المغربي، وهو منهم بالطبع.

عام 2009 أقيم له معرض تكريمي في القنيطرة بمناسبة توشيحه من طرف العاهل المغربي الملك محمد السادس بوسام المكافأة الوطنية بدرجة ضابط.

 في ذلك المعرض تحدث بناني عن علاقته بالألوان قائلا “أتعامل مع الألوان كشخوص، فاللوحة بالنسبة إلي مثل فيلم سينمائي أختار لها ألوانا تؤدي دور البطولة، وأخرى تؤدي أدوارا ثانوية، لذلك تجد علاقتي ببعضها حميمية جدا، فاللون البني أحبه كثيرا، وكذلك الشأن بالنسبة إلى الأسود والأبيض والأزرق، وأمقت ألوانا أخرى ولا أتصورها في لوحة من لوحاتي، كاللون الوردي مثلا، كما أن هناك ألوانا تتمرد أحيانا وتفرض نفسها في اللوحة”.

ولد محمد بناني عام 1943 بمدينة تطوان. درس في جامعة القرويين بفاس وأقام معرضه الأول في طنجة. بعد ذلك حصل على منحة دراسية في المعهد العالي للفنون الجميلة بباريس عام 1962.

بوكس

أقام بناني خمسة وثلاثين معرضا شخصيا داخل المغرب وخارجه. في جزء عظيم منها كشف عن ولعه بالأدب وبالأخص الشعر. وكان كتابه المشترك مع الروائي الطاهر بن جلون عام 1992 ثمرة لذلك الولع. وفي معرض “صديقي الخريف” عام 2005 رسم بناني لوحاته مستلهما قصائد الشاعرة المغربية عائشة البصري.

كان للسنوات التي قضاها في القرويين دارسا للاهوت أثرها في استغراقه في تأمل الحرف العربي وتأثيره البصري. لذلك سعى إلى استلهامه ومن خلاله ذهب إلى التجريد باعتباره مجالا حيويا للتأمل الروحي.

وكان شغف بناني بالمواد قد وهبه خيال تلك المواد لكي تحل محل الأصباغ التي يستعملها الرسامون. فكان يستعمل الرمل كما لو أنه زيت والتراب كما لو أنه أكريليك والحجر كما لو أنه حبر سائل.

تلك نعمة سيرثها الرسامون المغاربة من بعده. يقول بناني “في الرسم أقوم بكل شيء. ألعب. عندي تصفيات حساب إذا كان عندي إشكال مع اللوحة. أضحك معها. ألعب معها. كأني أحكي للقماش ما حدث معي”.

علينا أن نصدق أن تلك هي سيرته الشخصية.

تلك مفاتيح لفهم تجربة فنية غامضة. تجربة وصفها البعض بالسهل الممتنع. لوحات بناني تُحب لأنها قريبة من العاطفة. سيُقال من الوهلة الأولى إنها لوحات عاطفية غير أنها ليست كذلك. هي لوحات تأملية شجعت الرسام على اللعب كما لو أنه ساحر تغمره أصابعه بالبهجة.

إنه يضحك لأن العالم من حوله لا يزال نضرا. إنه يرسم البحر كما عرفه وكما تمنى له أن يكون. لم يكن أمامه سوى أن يكون رساما سعيدا. لذلك أحبه الآخرون وتأثروا به فصار معلما من حيث لا يدري؛ معلما لأجيال سيظن بعض أفرادها أنه استلهم مرجعياته من ثقافة بعيدة.

لعبته مع الرسم والحياة

ما لم يُكتشف من محمد بناني أكثر مما تم التعلم منه. ذلك هو سر كل فنان حقيقي. كان بناني فنانا تجريديا غير أنه في حقيقته كان عاشقا للحياة الشعبية المغربية التي أسرته الأصوات والروائح في أسواقها التي سعى إلى تصوير إيحاءاتها. الرجل الساكن هناك كان هو. لم يكن حارسا لوديعة. كان أشبه بالضيف. ما أجمل الرسام حين يكون مجرد ضيف خفيف. كل مفردات بناني جاهزة للتقليد. لكنها لن تكون هي نفسها بغيابه.

بوكس

يقول بناني “أتحاور مع الألوان طول الوقت فأثني على الأزرق حين يعجبني وأقبل البني عندما يروقني وألعن الأصفر عندما يغضبني. إنها مواد تحمل روحا ولغة أعبر من خلالها عما أريد”.

تلك هي لعبته مع الحياة التي قرر أن يجتازها من خلال الألوان. وكان مقيما في مواده التي قرر أن تكون جزءا من مصيره ومصير لوحاته. كان مسرورا باللعب بمفردات الرسم كما لو أنه يعالج أسباب شقاء حياته. لذلك كان بناني رساما صعبا. أحب المشاهدون لوحاته لأنها تسرهم غير أن التأمل فيها سيفضي بلعبة الحياة إلى عذابها.

الفنان الأكثر تأثيرا

ظهر محمد بناني متأخرا على جيل الستينات (فريد بلكاهية، محمد المليحي، محمد شبعة) غير أنه سرعان ما انتمى إليهم بقوة تأثيره وخصوصية هويته وخياله المنفتح على التراث والمرجعيات العالمية، فصار كما لو أنه ابن الحركة المتمردة التي ظهرت في الستينات. وهو ابن مدرسة تطوان الجمالية. سيكون من الصعب النظر إليه باعتباره الجزء الفالت من تلك المدرسة إلا في سياق ما تركته تجربته من تأثيرات على الفنانين الآخرين الذين لم يتعرفوا على مدرسة تطوان.

حضور محمد بناني في الحداثة الفنية المغربية سيتأكد دائما من خلال أعمال الفنانين الذين تأثروا به. وهو ما يمكن التعرف عليه من خلال النظر إلى المشهد الفني المغربي. ربما يكون بناني هو الفنان الذي ترك أكثر من سواه تأثيرا على الآخرين. سيرى الآخرون لوحاتهم في مرآته. ربما سيكون غيابه مناسبة للقيام بذلك وهو الذي لم ينافس أحدا في حياته. كان فنه صنيع تجربته في الحياة كما في طريقة النظر إلى فن يغامر في الانفتاح بمفرداته المحلية على مناخ عالمي قد يعصف به في أية لحظة. مَن يتأمل لوحات بناني لا بد أن يعصف به مزاج تأملي مبتل بالعاطفة.

صورة

صورة

 

8