الصحافة القومية لا تدخل ضمن حسابات الإنقاذ في مصر

اختزال أزمة الصحف المصرية في النواحي المالية يقلل من فرص تطويرها.
الثلاثاء 2023/03/07
استثناء من معركة الوعي

أظهر الواقع الذي تعيشه الصحف المصرية أن المشكلة تكمن في القائمين على إدارة المنظومة الإعلامية برمتها، فالأغلبية منهم لا يعرفون من أين يبدأ حل الأزمة، هل بمعالجة النواحي الإدارية وسد الثغرات المالية؟ أم بتطوير المحتوى الذي تسبب في عزوف الجمهور عن شراء الصحف لتجاهلها نبض الشارع لحساب الحكومة؟ لكن يبدو أن هناك تصميما على اختزال المشكلة في الجوانب المالية.

القاهرة - عكست تلميحات المسؤولين في الهيئة الوطنية للصحافة بمصر حول طبيعة الأزمة التي تعاني منها مؤسسات حكومية فهما خاطئا لطبيعة المشكلات التي تعاني منها في ظل الإصرار على اختزالها في النواحي المالية، وهو ما يعني بقاء الوضع الراهن دون تغيير، حيث يتم التعامل مع التطوير من وجهة نظر غير مهنية.

وحصلت “العرب” على معلومات تفيد بأن جهات عليا في الدولة المصرية تعقد جلسات مع مهنيين غابوا أو جرى تغييبهم لأجل البحث عن طريقة لتحسين أداء الإعلام، حيث هناك حالة عارمة من عدم الرضا على النتائج التي تمخضت عنها خطط التطوير.

وكتبت عضو الهيئة الوطنية للصحافة فاطمة سيد أحمد السبت على صفحتها على فيسبوك ما يؤكد حرص الدولة على تجديد الدماء بالكفاءات المهنية، حيث قالت إن “المناصب الإدارية الآن لم تعد بالترويج لأي شخص بأنه سيأتي في منصب ما، بل ستكون بمعايير دقيقة ومفاجأة دولة حديثة”.

جلال نصار: يصعب حل أزمات الصحافة القومية دون إستراتيجية للإنقاذ
جلال نصار: يصعب حل أزمات الصحافة القومية دون إستراتيجية للإنقاذ

وناقشت لجنة حقوق الإنسان في مجلس النواب المصري قبل أيام المعوقات التي تحول دون قيام الصحف القومية (الحكومية) بدور أكبر في ملف التوعية.

وأشار رئيس الهيئة الوطنية للصحافة عبدالصادق الشوربجي إلى وجود جملة من التحديات الاقتصادية، بينها انخفاض معدلات توزيع الصحف وزيادة الأعباء المالية، وارتفاع أسعار خامات الطباعة، مستبعدا الاستغناء عن الصحافة المطبوعة.

وبرر اتخاذ قرارات سابقة بتحويل بعض إصدارات الصحف الورقية إلى إلكترونية بضعف العوائد المالية وتراجع نسبة البيع، وألقى بجزء من المشكلات القائمة أيضا على تداعيات الأزمة الروسية – الأوكرانية، التي ضاعفت الأعباء على المؤسسات.

وتركت نتائج الاجتماع الصحافي – البرلماني حالة من الإحباط وسط العاملين في الصحافة لكون النقاشات لم تتطرق إلى أساسيات الأزمة الحالية داخل الصحف الحكومية مع تراجع المهنية وخروجها عن المنافسة والقبول الجماهيري وسطحية المحتوى وغياب التنوع والإصرار على الاستمرار في تقديم الخدمة الخبرية بطريقة تقليدية عقيمة لا ترضي طموحات القراء أو الدولة.

ويرى عدد كبير من العاملين في مؤسسات صحافية قومية أنهم ضحايا لسياسة تحريرية محاطة بجملة من الخطوط الحمراء تسببت مع الوقت في تحول الصحف إلى ما يشبه النشرات الرسمية، مهمتها تبييض وجوه المسؤولين والدفاع عن قراراتهم، ورغم مواكبة المؤسسات للتحول الرقمي، إلا أن مشكلاتها لم تعد مرتبطة بكونها ورقية أم إلكترونية، بل سطحية المحتوى.

وأصبح العديد من الصحافيين أشبه بموظفين يتلقون البيانات، وهناك رؤساء تحرير يكتفون بنشر الروايات الرسمية دون تعمق أو تحليل أو تفسير، وينطبق ذلك على الصحافة الورقية والرقمية حتى بدت بعض الصفحات على شبكات التواصل الاجتماعي أقوى في التأثير والجماهيرية من بعض الصحف والمواقع الحكومية، ما جعل شعبية الأخيرة تنخفض إلى الحد الأدنى.

ويؤكد خبراء الإعلام أن الحكومة لو كانت ترى بارقة أمل في الصحافة القومية وتعوّل عليها فعلا في معركة بناء الوعي لأسقطت عنها الديون المتراكمة، لاسيما أن النسبة الأكبر من الديون عبارة عن ضرائب وفواتير مياه وكهرباء واتصالات وتأمينات، لكنها فقدت الأمل فيها أمام سوء إدارتها وسيطرة البيروقراطية عليها واختزال قيادتها المشكلات في نواحي مالية فقط.

ولا يعني ذلك أن الحكومة لا تتحمل الجزء الأكبر من الأزمة التي تعيشها الصحف القومية، فهي التي استعانت بمسؤولين بعضهم يفتقد إلى أصول المهنة ويطبق سياسة تحريرية محاطة بمجموعة من المحاذير حتى لو لم يُطلب منه ذلك، والكثير منهم يعتبر أن التجويد والتعميق وتلبية احتياجات الجمهور من محتوى جاد خروج عن النص.

ثمة قناعة لدى البعض من المسؤولين عن إدارة الصحف القومية بأنها طالما هي تابعة للحكومة لا يجب أن تغرد خارج السرب وإسقاطها في دوامة الإفلاس المادي والمهني

وقال الخبير الإعلامي ورئيس تحرير “الأهرام ويكلي” سابقا جلال نصار إنه يصعب حل الأزمات التي تعيشها الصحافة المصرية من دون وجود إستراتيجية للإنقاذ توازن بين النواحي الاقتصادية والمهنية، فالاهتمام بشق واحد يكرس بقاء الوضع الراهن بلا تغيير ويدفع بعض المؤسسات للسقوط في دوامة يصعب الخروج منها، والجمهور لن يصبر على أي مؤسسة تهتم بالموارد على حساب المحتوى وتقديم مضامين جيدة.

وأضاف لـ”العرب” أن الفهم الخاطئ لطبيعة المشكلات التي تعانيها الصحف كرّس هجرة الجمهور لها، فالقارئ يبحث عن محتوى جديد وشيق، ينقل نبضه ومطالبه لصانعي القرار ويقدم المعلومة الصحيحة والدقيقة والتحليل العقلاني، وهذا لا يرتبط بكون الوسيلة ورقية أم رقمية، ولا يصح أن تكون هناك إصدارات إلكترونية نسخة مكررة من الصحيفة المطبوعة وبلا مراعاة لتطورات الأحداث.

ويعاني الكثير من الصحافيين في مصر من غياب هامش الحرية والمنافسة والتميز، مقابل الاهتمام بالخطاب الرسمي بصورة مبالغ فيها، وإذا كانت المعضلة في النواحي المالية المرتبطة بالطباعة والتوزيع وغيرها فمن المفترض ألا تكون هناك أزمة في الصحف الإلكترونية، غير أنها تواجه المصير نفسه وتتعرض إلى خسائر فادحة جراء هيمنة الصوت الواحد على محتواها.

وباتت هناك قناعات عند البعض بأن ما يحدث داخل بعض المؤسسات الصحافية شبه متعمد لاستمرار الإعلام الرسمي على الحالة الرديئة الراهنة، بحيث تكون حجة لإمكانية التوسع في دمج إصدارات وإلغاء أخرى إذا لم تكسب ماديا وليس لها قاعدة جماهيرية، والأفضل خروجها من المشهد برمته لتقليل حجم الخسائر المالية.

الحكومة لو كانت ترى بارقة أمل في الصحافة القومية وتعوّل عليها فعلا في معركة بناء الوعي لأسقطت عنها الديون المتراكمة

وثمة قناعة لدى البعض من المسؤولين عن إدارة الصحف القومية بأنها طالما هي تابعة للحكومة لا يجب أن تغرد خارج السرب وإسقاطها في دوامة الإفلاس المادي والمهني، مع أن الرئيس عبدالفتاح السيسي لا يمانع في وجود أصوات مختلفة، ولا يرفض النقد البناء ومشاركة الإعلام في رقابة الأداء الحكومي على الدوام، لكن هناك عقليات إدارية داخل المؤسسات الصحافية تبدو ملكية أكثر من الملك نفسه.

وإذا استمرت هذه الحالة مسيطرة على مجريات الأمور داخل الصحف فلا مجال لإنقاذها من نزيف الخسائر على مستوى النواحي المالية والجماهيرية، فهؤلاء لا يقتنعون بأن أساس المشكلة في المحتوى، والناس يبحثون عن منابر متحررة من هيمنة الخطاب الرسمي، ويريدون أن تكون الصحيفة متناغمة مع نبض الشارع وتطلعاته لا السُلطة وأهدافها، أو على الأقل توازن بين الطرفين.

وأسهمت الشيخوخة المبكرة المسيطرة على العقليات الإدارية داخل كثير من المؤسسات الصحافية في التراجع الظاهر، مع أنها تعج بوجوه شبابية تدرك جيدا ما يحتاجه الشارع ولديها حلول احترافية للجذب وتحقيق الجماهيرية بأقل الإمكانيات، المهم أنها تؤمن بالتنوع والاستقلالية، أي أن جزءا أصيلا من المشكلة مرتبط بتغييب الكوادر القادرة على المشاركة في الإصلاح وانتشالها من أزماتها المهنية والمالية.

ومع وصول الحال إلى ما هو عليه غيّرت الحكومة نظرتها إلى الصحف القومية، وبعد أن كانت تعتبرها الصوت الرسمي لها والوسيط المعتدل والدبلوماسي المحترف عند مخاطبة الداخل والخارج صارت عبئا على الدولة، ووجودها والعدم سواء، عند صانع القرار والجمهور، وبات إنقاذها من الاندثار بحاجة إلى معجزة لن تتحقق إلا من خلال استبعاد أهل الثقة وتكليف أصحاب الكفاءات بتولي زمام أمورها.

5