حاجة مصر لمن يكتب ويفسر بموضوعية

تسببت واقعة تم نشرها على تويتر أخيرا حول غلق أحد المصانع جراء البيروقراطية ونقل نشاطه إلى السعودية في تفجير طاقة غضب ضد الحكومة المصرية التي تعاملت مع الأمر بجدية وتيقنت أن الحادثة مختلقة ولا أساس لها من الصحة، وتبين أن الحساب الذي بثها لأول مرة تم غلقه بعد وقت قليل وعندما تأكد أن ما كتبه انتشر سريعا وانتقل إلى مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى.
تكفي هذه الواقعة لتأكيد أن الشائعات التي يشكو منها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أصبحت صداعا مزمنا في رأس الدولة، ويمكن أن تشوّه صورة النظام الحاكم وتهدم أيّ إنجازات تحققها الحكومة على الأرض، فالشائعة السابقة جاءت في توقيت تسعى فيه القاهرة لتطوير الرؤية الاقتصادية وتهيئة الأجواء لجذب الاستثمارات الخارجية، ونشرها يؤثر سلبا على ذلك، ما يشي بأنها متعمّدة وهدفها التشويش.
تبرز الشائعات عندما تتناقص المعلومات، ويزدهر انتشارها مع غياب الثقة في الحكومة والشك في وسائل الإعلام الناطقة باسمها أو القريبة منها، كما تنتعش نظرية المؤامرة في كل بيئة تتراجع فيها الصحافة عن القيام بمهامها الاستقصائية والتفسيرية.
علاوة على أن الإعلام الذي يعتمد على المعلومات المجردة فقط لا يكفي للقيام بدوره على أكمل وجه، فالمجتمع المصري بدرجات متفاوتة في وعيه يحتاج من يكتب ويشرح ويفسّر، بلا انحياز سافر للحكومة وسياساتها أو تهويل يروق للمعارضين.
◙ الشائعات المضادة تستفيد من شح المعلومات وندرة الكتابة الجادة وغياب التفسير وزيادة القيود المفروضة على التفكير، فضلا عن اتساع نطاق قائمة الممنوعات في الإعلام
ظهرت تجليات الشائعات بكثافة وقت أن تراجع دور الصحافة والإعلام الرشيد عموما واعتمد على الدعاية وترك المعالجة المهنية، وسمح لمواقع التواصل الاجتماعي بسحب البساط منه والتجاوب مع ما تبثه المنصات المختلفة بلا تدقيق أو تعميق وتعامل الحكومة معها باهتمام لافت، حيث أنشأت وحدات خاصة لمتابعة مواقع التواصل.
زاد الأمر عن حده وأضحى مزعجا للدولة، لأن المعلومات تداخلت مع الشائعات، وتاه الناس في التفرقة بينهما، وارتدت آثار التيه إلى صدر الحكومة التي لجأت إلى النفي المباشر تارة والتجاهل والصمت تارة أخرى، وفي الحالتين لم تتمكّن من التحكم في ارتفاع منسوب التشكيك في تصرفات قامت بها وهي على يقين من جدواها للمواطنين.
قوّضت الحكومة دور الإعلام الحقيقي الفترة الماضية، ولجأت إلى أساليب تقليدية في الدعاية تجاوزها الزمن، وتصر على إعادة إنتاج ممارسات لم يكن فيها الإعلام يواجه العقبات الراهنة، ولم تكن المنصات احتلت حيزا بارزا في المتابعة والتأثير والانتشار.
تثبت التطورات يوما بعد يوم أن الصحافة قادرة على التأثير والانتشار، وأن الإعلام الجاد يمكن أن يلعب دورا مهما في دحر الشائعات ووأد الأكاذيب التي تحفل بها مواقع التواصل. فقط، تسمح الدولة المصرية بهامش واسع من الحرية في التفكير والنشر وتوفر المعلومات اللازمة للقيام بعمل إعلامي، وستكون أول المستفيدين، فخسائرها الناجمة عن الشائعات وملحقاتها يمكن أن تلحق أذى كبيرا بما يتحقق من إنجازات.
ضمّت مصر مجموعة كبيرة من الكتّاب والمفكرين والمبدعين في عصور سابقة، قدموا إسهامات نوعية في مجالات متعددة، وتملك ذخيرة قوية الآن، تحتاج من يفتح أمامها الطريق للانطلاق، وهذه الذخيرة الوحيدة القادرة على الكتابة النافعة والتفسير المنطقي والتحليل الرشيد الذي يمكن أن تستغله الحكومة في تصويب بعض الأخطاء، ويكفي لإقناع الرأي العام بأهمية الكثير من خطواتها.
تفشل دوما الكتابة التي تأتي من أعلى إلى أسفل، وتظل تخاطب نفسها إذا ظن أصحابها على يقين بأنهم يقدمون خدمة للحكومة والناس معا، فعلى مدار عشر سنوات تبدو الحصيلة التي أنتجتها هذه الطريقة متدنية، أو على الأقل لم تحقق أهداف الدولة، بدليل أن الرئيس السيسي يعلن غضبه من الإعلام الذي تسيطر عليه جهات رسمية معروفة.
يمكن تفسير غضب الرئيس المصري الدائم من الإعلام بأنه لم يجد المردود الذي ينتظره من وسائل تمتدح حكمه وتصرفاته ورؤاه ليلا ونهارا، ووجد شائعات تحيط به من كل جانب، حتى المشروعات القومية والإنجازات التي تتحقق في مجال البنية التحتية لم تسلم من التطاول عليها، ما يشير إلى وجود أزمة هيكلية في الطريقة التي يعمل بها الإعلام، وليس ذكاء في وسائل الإعلام المعارضة التي حققت رواجا مؤخرا.
أدى فقدان الكثير من الإعلاميين القريبين من النظام لمصداقيتهم إلى الانصراف عن الإصغاء لهم والذهاب إلى منافسيهم، وهم أشد بؤسا ونفاقا وأقل موضوعية وأكثر كذبا وخداعا، لكن الجمهور يبحث عن الصورة الأخرى الغائبة في الإعلام الرسمي.
تبدو هذه واحدة من المشكلات التي يجب أن تنتبه لها الحكومة المصرية، إذا أرادت إعادة تقييم تجربة السنوات الماضية وقياس مستوى المكاسب والخسائر، فالرأي الأحادي لا يقدم إعلاما مفيدا ومقنعا، والنظرة التي يغيب عنها صوت المعارضة لن تجدي سياسيا، والرؤية التي تقدم بلا تفسير أو توضيح لن تحقق أهدافها.
◙ الشائعات تبرز عندما تتناقص المعلومات، ويزدهر انتشارها مع غياب الثقة في الحكومة والشك في وسائل الإعلام الناطقة باسمها أو القريبة منها
هناك ضرورة لإتاحة الفرصة كاملة لمن يكتبون ويفسرون عن قناعة شخصية وليس تنفيذا لأوامر تأتيهم من جهات عليا، ولن تعدم الحكومة المصرية العثور على كفاءات تستطيع القيام بهذه المهمة بحنكة، لأن الشائعات التي يشكو منها الرئيس لن تتوقف أو يتم تحجيمها في ظل غياب إتاحة الفرصة للتفكير بحرية.
تنتعش الكتابة في أجواء الحرية الكبيرة، ويصبح التفكير مؤثرا عندما يتحول إلى فريضة في وسائل الإعلام، وتقل الشائعات مع توافر المعلومات وما يصاحبها من توظيف حقيقي يصب في مصلحة الجمهور، والتي هي في النهاية مصلحة الدولة.
تستفيد الشائعات المضادة من شح المعلومات وندرة الكتابة الجادة وغياب التفسير وزيادة القيود المفروضة على التفكير، فضلا عن اتساع نطاق قائمة الممنوعات في الإعلام، فهناك دول يصعب الاقتراب منها أو التطرق لها، سلبا أو إيجابا، وهناك قضايا مسكوت عنها قسرا وطوعا، وهناك شخصيات غير مستحب التعرض لها.
كيف يؤدي الإعلام دوره في خدمة الدولة وهو محاط بجملة كبيرة من القيود والمحرمات، وكيف تستفيد الدولة منه وهامش الحرية غير قابل للزيادة، وكيف تواجه القاهرة التحديات الحرجة في الداخل والخارج وهي تضع خطوطا حمراء أمام كتّابها؟
إذا رفعت أجهزة الدولة جانبا معتبرا من القيود المفروضة وفتحت الباب أمام الكتابة التفسيرية والتحليلية يمكنها تقويض ما تبثه مواقع التواصل من معلومات سلبية، وإذا تذكرت الأهمية التي تنطوي عليها الصحافة العميقة وعملت على استغلالها ولم تنبهر بالإعلام، في هذه اللحظة يمكنها أن تكسب الحرب على الشائعات بالضربة القاضية.