الوضع الصحي يحد قدرات واشنطن على منافسة بكين اقتصاديا

تراجع الصحة يحد من الإنتاجية ويضعف قدرة الدولة على الدفاع عن نفسها.
الجمعة 2023/03/03
جائحة كورونا فاقمت المشاكل الصحية للأميركيين

تفيد أحدث المؤشرات والتقارير بأن المجتمع الأميركي مجتمع مريض، حيث لا يقدر أغلب شبابه على أداء الخدمة العسكرية، وتفشت الأمراض المزمنة بين الأميركيين، ومنها السمنة المفرطة، بالإضافة إلى تأثيرات كوفيد - 19 المزمنة التي منعت الآلاف من العمل، وهو ما يسلط الضوء على أن المشاكل الصحية ستخلف مشاكل اقتصادية أكبر تجعل الولايات المتحدة غير قادرة على المنافسة اقتصاديا.

واشنطن - تمتعت الولايات المتحدة لمدة طويلة بأعلى مستويات الصحة العامة في العالم، ما منحها قوة بشرية عاملة عززت نفوذها الاقتصادي، لكن يبدو الوضع حاليا مختلفا جدا، حيث تراجعت مستويات الصحة في البلاد، ما يعني وفق خبراء أن مستقبلها الاقتصادي سيكون قاتما.

وفي الحقبة الاستعمارية كان الرجل الأميركي العادي أطول بما بين بوصتين وثلاث بوصات عن نظيره الأوروبي، وفقا للسجلات العسكرية، وهي حقيقة كانت مبهرة لخبراء الديموغرافيا التاريخيين الذين يرون أن طول الإنسان يتناسب طرديا مع طول متوسط العمر والتطور المعرفي والقدرة على العمل.

واليوم تحول التفوق الصحي للولايات المتحدة إلى عجز. فالأميركي العادي أقصر من نظيره في شمال أوروبا، وهذا الفارق يتسع بمرور الوقت. كما أن ستة من كل عشرة أميركيين يعانون من مرض مزمن واحد، وأربعة من كل عشرة يعانون من مرضين مزمنين.

أدريان غولدبرغ: تدهور الصحة في الولايات المتحدة أصبح مشكلة اقتصادية متزايدة وأمنا قوميا
أدريان غولدبرغ: تدهور الصحة في الولايات المتحدة أصبح مشكلة اقتصادية متزايدة وأمنا قوميا

وهذا الواقع هو ما دفع الكاتب الأميركي ويليام جلاستون إلى القول في مقال نشرته صحيفة وول ستريت جورنال إن “الولايات المتحدة مجتمع مريض بالمعنى الحرفي للكلمة”.

 وفي تحليل نشرته وكالة بلومبيرغ للأنباء، قال الكاتب الأميركي أدريان غولدبرغ إن تدهور الصحة في الولايات المتحدة أصبح مشكلة اقتصادية متزايدة. وقد تراجع معدل مشاركة الأميركيين في قوة العمل إلى 62.4 في المئة، ووصل عدد الوظائف الخالية إلى 11 مليون وظيفة مقابل وجود 5.7 مليون أميركي فقط يبحثون عن وظائف، بحسب غرفة التجارة الأميركية، في حين اختفى حوالي 2.8 مليون شخص من قوة العمل الأميركية منذ فبراير 2020.

في المقابل، يشكو أصحاب العمل في الولايات المتحدة من كثرة تغيب العمال عن العمل وضغوط الوظائف، بالإضافة إلى عجزهم عن إيجاد العمال المطلوبين لشغل الوظائف لديهم. في الوقت نفسه ترتفع نفقات الرعاية الصحية.

لكن في ظل تصاعد التوترات مع كل من روسيا والصين، يصبح القصور الصحي في الولايات المتحدة مشكلة أمن قومي أيضا. وكشف مسح أجرته وزارة الدفاع الأميركية عام 2020 أن أكثر من ثلاثة أرباع الشباب الأميركي الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاما غير لائقين طبيا للخدمة العسكرية، في ظل معاناة أغلبهم من السمنة.

ويقول غولدبرغ مؤلف كتاب “أرستقراطية الموهبة: كيف صنعت الجدارة العالم الحديث” إن انخفاض متوسط العمر المتوقع في الولايات المتحدة هو أوضح الأدلة على تدهور الحالة الصحية للمجتمع الأميركي ككل.

ففي عام 2014، تراجع متوسط الأعمار في الولايات المتحدة إلى 76.1 عاما وهو أقل رقم منذ 1996.

في المقابل، زاد متوسط العمر للألمان عن الأميركيين بمقدار 4.3 عام في 2021 مقابل 2.5 عام في 2018. كما زاد متوسط عمر الفرنسيين عن الأميركيين عام 2021 بمقدار 6 سنوات مقابل 4 سنوات فقط عام 2018.

كما تعاني الولايات المتحدة من أحد أعلى معدلات السمنة في العالم المتقدم، حيث زادت نسبة السمنة بين الأميركيين من 15 في المئة عام 1980 إلى 30.5 في المئة عام 2000، ثم إلى 41.9 في المئة عام 2020.

وتبلغ هذه النسبة عشرة أمثال النسبة في اليابان وتزيد بشدة عن النسبة في الصين. وترتبط السمنة بمشكلات صحية عديدة، منها أمراض القلب والاكتئاب وضغط الدم المرتفع، والسرطان المرتبط بنمط الحياة والسكري، والتي تصيب حوالي 13 في المئة من السكان في الولايات المتحدة وتكبد أصحاب العمل الأميركيين حوالي 90 مليار دولار سنويا.

الولايات المتحدة المنهكة صحيا لا تستطيع كسب المنافسة الحالية مع الصين، على الصعيد الاقتصادي أو حتى العسكري
الولايات المتحدة المنهكة صحيا لا تستطيع كسب المنافسة الحالية مع الصين، على الصعيد الاقتصادي أو حتى العسكري

 وجاءت جائحة كورونا لتقدم دليلا إضافيا على انهيار التفوق الأميركي في مجال الصحة، حيث ظل معدل الوفيات من المرض في الولايات المتحدة أعلى منه في أغلب الدول المتقدمة الأخرى. ففي الولايات المتحدة بلغ المعدل 339 وفاة لكل 100 ألف أميركي مقابل 254 وفاة لكل 100 ألف في فرنسا و201 لكل 100 ألف في ألمانيا و134 وفاة لكل 100 ألف في كندا، بسبب فقر نظام الرعاية الصحية الأساسية في الولايات المتحدة.

وأدت الجائحة إلى تراجع حاد في معدل المشاركة في قوة العمل بالولايات المتحدة، وهو التراجع الذي لم تتعاف منه البلاد رغم انحسار الجائحة. كما أدت إلى إرث أطول مدى يعرف باسم مشكلة “كوفيد الممتد” التي مازال الأطباء يحاولون فهمها، وتصيب الناس بمشكلات صحية مثل الشعور بالتعب وقصر النفس والتوهان.

ويقول معهد بروكينغز الأميركي إن حوالي ثلاثة ملايين أميركي بما يعادل نحو 1.8 في المئة من قوة العمل المدنية في البلاد، خرجوا من سوق العمل ببسب الكوفيد الممتد، وهو ما يعني خسارة الاقتصاد الأميركي حوالي 168 مليار دولار سنويا.

 كما أن مشكلات الصحة النفسية في بلاد العم سام تماثل خطورة مشكلات الصحة الجسدية، رغم صعوبة قياس الأولى أو تشخيصها. وأظهر تقرير صادر عن مركز مكافحة الأمراض الأميركي أن في عام 2021 فكر نحو ثلث طالبات المرحلة الثانوية في الولايات المتحدة جديا في الانتحار. ويعاني الشباب من الشعور بالاغتراب مع ارتفاع معدلات التسرب من التعليم وتراجع معدلات الالتحاق بالجامعات. ولا شيء من كل هذا يبشر بمستقبل أفضل للولايات المتحدة.

اليوم تحول التفوق الصحي للولايات المتحدة إلى عجز فالأميركي العادي أقصر من نظيره في شمال أوروبا، وهذا الفارق يتسع بمرور الوقت

ويقول غولدبرغ إن معالجة أزمة الرعاية الصحية في الولايات المتحدة أصعب من معالجة مشكلة تدهور مستوى التعليم. فصناعة الوجبات السريعة تمتلك نفوذا ضخما وتفرض على السكان وبخاصة الفقراء طعاما مشبعا بالدهون والملح، بينما تتحدث عن أشياء جيدة مثل الحوكمة البيئية والاجتماعية.

كما أن صناعة الرعاية الصحية الأميركية عبارة عن مجموعة ضخمة من المصالح الخبيئة والحوافز المنحرفة.

ورغم ذلك فإن صعوبة إصلاح الصحة في الولايات المتحدة لا تعني استحالته، فقد تصدت الولايات المتحدة لنفوذ صناعة التبغ ونجحت، وأصبح معدل التدخين لديها هو الأقل بين الدول المتقدمة، وبخاصة في جنوب أوروبا، حيث مازال الناس يدخنون أثناء تناول الطعام.

ويحتاج الأميركيون إلى التحلي بنفس الإصرار الذي حاربوا به التدخين، في مواجهة الوجبات الجاهزة والسريعة. عليهم البدء في التفكير في حالة السكان الصحية، كما فعل الليبراليون في بريطانيا في أوائل القرن العشرين، عندما أدركوا أنهم لن يتمكنوا من الوقوف في وجه ألمانيا عسكريا واقتصاديا دون تحسين مستوى الصحة العامة للبريطانيين أولا.

ويؤكد غولدبرغ أن الصحة الجيدة ليست مجرد أمر لطيف، ولكنها مكونا حيويا من مكونات القدرة التنافسية الوطنية. وضعف الصحة ليس مأساة للفرد الذي يعاني منه، إنه يكبح جماح إنتاجية الدولة وقدرتها على الدفاع عن نفسها، لذلك يمكن القول وبوضوح إن الولايات المتحدة المريضة والمنهكة صحيا لا تستطيع كسب المنافسة الحالية مع الصين، سواء على الصعيد الاقتصادي أو حتى العسكري.

7