استدعاء أحداث يناير 1978 ممارسة سلفية صريحة

التاجر المفلس يعيد النظر والتدقيق دائما في دفاتره القديمة.. هذا هو حال الاتحاد العام التونسي للشغل، في التلويح باستحضار أحداث 26 يناير 1978 كأول مواجهة دامية بينه وبين السلطة أيام حكم الزعيم الحبيب بورقيبة.
خمسة وأربعون عاما مرت على ما عرفه التونسيون بالخميس الأسود، وفيه بلغت المواجهة أقصاها وخلفت العشرات من القتلى والمئات من الجرحى من جماهير العمال والنقابيين في تصديهم للقوات الأمنية والعسكرية، على إثر احتجاجات ومظاهرات غاضبة من غلاء المعيشة وغير ذلك من مطالب نقابية وسياسية.
كانت حكومة الهادي نويرة قد انخرطت في الاقتصاد الرأسمالي عبر منظومة من التشريعات، وكانت المنظمة النقابية التي يترأسها الحبيب عاشور بمثابة المنافس الوحيد في غياب الأحزاب، على الرغم من وقوف أمينها العام إلى جانب بورقيبة في تصديه للنقابيين الحمر.
الآن، لا حكومة نجلاء بودن تسعى نحو التطبيع المجاني مع الرأسمالية الدولية، ولا الرئيس قيس سعيد يعاني من ذعر الشيوعية، ولا الأمين العام للنقابة نورالدين الطبوبي يمتلك كاريزما الحبيب عاشور، ولا هو بصدد المنافسة على كرسي الرئاسة.
◙ إنها بالفعل، دائرة مغلقة وقعت فيها تونس بسبب المكابرة غير المبررة التي يسعى الاتحاد لدعمها وتكريسها، تماما مثل استحضاره للماضي النضالي والتلويح به في "ممارسة سلفية" صريحة
والأكثر من ذلك كله، لم يعد التونسيون ما كانوا عليه في سبعينات القرن الماضي، ولا الظروف المحلية والإقليمية والدولية تسمح بمثل هذه المواجهات المطلبية التي من شأنها أن تهز عروش الأنظمة، فعلام يصر الاتحاد العام التونسي للشغل على استدعاء مثل هذه الأحداث في بياناته المتشنجة؟
الاستثمارات الأجنبية التي استحدثها قانون 1972 وما أعقبها من فرص تشغيل، أصبحت أمرا يُطلب فلا يُدرك في ظل هروب وعزوف رأس المال الأجنبي عن الاستثمار في تونس بسبب تخوفه من المطالب المشطة التي يزايد بها الاتحاد، أي أننا صرنا نبكي على يوم كنا نبكي منه.
وقس على ذلك من مقاربات مستحيلة تحاول القيادات النقابية الحالية استحضارها بلا جدوى، فإلى أي مدى يمضي الواهمون؟
سياسة التخويف والبعبع الذي أراد النقابيون أن يخوفوا الحكومة منه فقد شرعيته ولم يعد موجودا، ثم من قال لهم إن الجماهير تنصت إليهم بكرة وعشيّا في وقت وضعت فيه الحكومة حدا للاحتكار النقابي.
وفي هذا الإطار، عمدت رئيسة الحكومة، أخيراً، إلى تفعيل التعدّدية النقابية حين استقبلت الأمين العام لاتحاد العمّال، وهو أحد الأعضاء السابقين للاتحاد العام التونسي للشغل، قبل أن يؤسّس تنظيمه الخاص، وتصدر رئاسة الحكومة بعد ذلك بساعات التشريعات الخاصة بالاقتطاع المالي لفائدة المنظمات النقابية.
صفوة القول إن الاتحاد العام التونسي للشغل فقد من عينيه ذيّاك البريق، وآن له أن يستفيق من غفوته ويتخلص من أوهامه، إذ لم يعد ذلك الخط الأحمر المهاب بعد جملة تخبطات ومشاكل داخل قيادته.
وتعالت مؤخرا أصوات من الوسط اليساري تنادي بـ”إنقاذ الاتحاد من قيادة الاتحاد”، هذا إلى جانب الضبابية وعدم وضوح الرؤية التي يتهمه بها عدد من الأحزاب سواء كانت في صف الرئيس سعيد أو في غير صفه.
الاتحاد العام التونسي للشغل أزعج السلطة وقارعها حين كان على كلمة رجل واحد منذ ما يقارب نصف القرن، وفي ظل ظروف مختلفة وعقلية مختلفة، أما الآن فهو يبحث عن مشروعية تاريخية وهمية ومفقودة، وليس بوسع أي عامل تونسي “يقبل يده الآن، وجها وقفا” على نعمة إيجاد شغل يحفظ كرامته، أن ينصاع لمثل هذه الأضغاث.
◙ الآن، لا حكومة نجلاء بودن تسعى نحو التطبيع المجاني مع الرأسمالية الدولية، ولا الرئيس قيس سعيد يعاني من ذعر الشيوعية، ولا الأمين العام للنقابة نورالدين الطبوبي يمتلك كاريزما الحبيب عاشور
ومن نوادر وعجائب التونسيين أنهم أوجدوا ما يسمى بـ”الاتحاد العام للمعطلين عن العمل” كمنظمة نقابية تدافع عن حقوقهم، وترفع مطالبهم إلى الجهات المسؤولة.
ويضم هذا التجمع الكثير من أصحاب الشهادات الجامعية العليا، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن لهؤلاء الانضواء تحت راية اتحاد الشغل، والتمتع بعضويته؟
هو سؤال يأخذ طابعا “سورياليا” وينبثق من جدوى النفخ والتضخيم في النشاط المطلبي، في حين أن الواقع ينم عن نسبة بطالة متضخمة بلغت أقصاها في بلد متواضع الثروات الطبيعية، ضعيف الاقتصاد، وينفق كما هائلا من ميزانيته على رواتب العمال والموظفين إلى درجة طلب الدين من أجل مقاضاتهم أجورهم.
هذه الوضعية الكارثية تدافع عنها المنظمة النقابية التونسية، وتسعى لاستمرارها وتفاقمها من حيث تدري أو لا تدري، وذلك بعنادها المستمر، ووقوفها ضد الخصخصة كإجراء إصلاحي لا مفر منه، ومطلب أساسي من مطالب صندوق النقد الدولي مقابل المساعدات المالية.
إنها بالفعل، دائرة مغلقة وقعت فيها تونس بسبب هذه المكابرة غير المبررة التي يسعى الاتحاد لدعمها وتكريسها، تماما مثل استحضاره للماضي النضالي والتلويح به في “ممارسة سلفية” صريحة.. وإلا فما معنى استدعاء أحداث يناير 1978 في يناير 2023؟