حرب التعريفات تحط أوزارها في تونس

حربُ تعريفات ومفاهيم تدور رحاها الآن على الساحة السياسية في تونس بين الرئيس قيس سعيد وحكومة نجلاء بودن من جهة، والاتحاد العام التونسي للشغل والأحزاب المعارضة المنضوية تحت ما يُعرف بـ”جبهة الخلاص الوطني” من جهة ثانية.
هذه التعريفات تتعلق بثوابت وطنية يراها التونسيون مبهمة وفضفاضة، لكثرة ما يشهرها الجميع على الجميع من قبيل: الاحتكام إلى الدستور، الإخلال بالأمن القومي، المس باستقرار البلاد، احترام المسار الديمقراطي، الإضرار بقفة المواطن، التعرض إلى هيبة الدولة، وغير ذلك من الخطوط التي كادت تصيب المواطن بعمى الألوان.
ولن تحط هذه الحرب أوزارها قبل أن تؤول الكلمة إلى الجيش والقضاء.. المؤسستان الوطنيتان القادرتان على حسم كل جدال دون تشكيك في النزاهة من قبل المواطن الذي أودع فيهما ثقته وجلس ينتظر.
لن يدوم الانتظار طويلا هذه المرة، وبعد أن قالت صناديق الانتخابات التشريعية كلمتها، ولو بشكل فاتر وغير مدوّ، لكن لا أحد يشكك في مصداقيتها من مراقبين محليين ودوليين.
ما يصبو إليه وينتظره كل تونسي من قيس سعيد أن يستمر في إصلاحاته ويضاعف الجهود فعلا وعملا كي لا يقال عنه إنه ظاهرة صوتية
الرد جاء من القائد الأعلى للقوات المسلحة في تونس، الرئيس قيس سعيد، وهو المدرّس السابق لمادة القانون الدستوري بالجامعة التونسية، أي أن “الأمر كان مقضيا”.. ومن داخل ثكنة عسكرية في إحدى ضواحي مدينة تونس.
الرسالة كانت واضحة ومضمونة الوصول إلى أكبر منظمة نقابية في البلاد بعد الإيقاف قيد التحقيق لأحد قيادييها بتهمة التحريض على الإضراب غير المشروع، مما جعل حزب العمال المعارض الذي يتزعمه حمة الهمامي يسارع إلى إصدار بيان طالب فيه بإطلاق سراح النقابي الموقوف، ودعا إلى “التصدي لهذه الممارسات القمعيّة التي تستهدف الحريّات النّقابيّة علاوة على الحريّات الفرديّة والعامّة والتي لا تستثني أحدا، لا أحزابا ولا منظّمات، ولا جمعيّات، ولا أفرادا”، حسب ما جاء في البيان ذي اللغة التحريضية.
الارتباك بدا واضحا لدى خصوم سعيد إلى درجة تبادل الاتهامات وتحميل المسؤوليات في قول أحد مساندي الاتحاد لحلفائه معاتبا “ذُبحتم يوم ذُبح الثور الأبيض.. أي اصطفافكم المتقلب وصراعاتكم وعدم أخذ موقف واضح من 25 يوليو منذ البداية”.
وأضاف الناشط الحقوقي مصطفى عبدالكبير، متبنّيا الخطاب التقليدي للاتحاد “أنتم الآن هدف لحكومة بودن من أجل عيون صندوق النقد الدولي الذي يشترط إضعاف الاتحاد من أجل بيع مؤسسات القطاع العام”.
أما من جهة الرئيس التونسي فيبدو واضحا أن الرجل المعروف بحسمه وقوة صبره كما يقول مساندوه، مصرّ على تطبيق القانون في حق من يريد “زعزعة الأمن العام” كما ورد في خطابه. كما بدا واضحا انتقاله إلى الفعل بعد عبارات التهديد المبهم والتعميم الغامض التي ينتقده عليها مؤيدوه.
كل المعطيات باتت لا تجبر الرئيس سعيد على التلميح دون التصريح، فالمؤسسات الدستورية توشك على العودة كاملة إلى سيرورتها بعد انتخابات لم تشبها شائبة، وأمام سجل حقوقي غير ملوث رغم الاستقواء عليه داخليا وخارجيا من طرف النقابة والأحزاب.
ليس أمام الرجل الآن من معوقات تمنعه من الانكباب على الملف الاقتصادي وقد آلت إلى صالحه الأمور، ورجحت كفة الأولوية للحالة المعيشية على كفة الحياة الحزبية التي لا تفيد المواطن في شيء، بدليل الإقبال الباهت على صناديق الاقتراع، والتي جيرها سعيد لصالحه بقوله إن “ذلك يدل على انعدام ثقة المواطن بكم وبالبرلمان الذي تنشدونه وتتباكون عليه بعد 25 يوليو 2021” يا معشر الأحزاب الفاسدة.
نجح سعيد في إسكات أفواه منتقديه ومعارضيه بالحجة والبرهان فكسب ثقة الشعب رغم حساسية الحالة وهشاشة الظرف الاجتماعي الناتج عن الأزمة الاقتصادية.
المهمة التي تنتظر قيس سعيد، بعد انقشاع السحب عن سماء تونس، ليست سهلة وسط أزمة عالمية أرخت بثقلها على أقوى اقتصادات العالم
نجاح استمده الرجل المعروف بنظافة اليد من ثقة الناس وكفرهم بالأحزاب التي لم يجنوا من خلفها غير الفساد والفضائح المالية.
ليس سهلا أن يكسب سياسي تونسي ثقة شعب عنيد، جسور، وشديد التنبه إلى صغائر الأمور بفضل ثقافة نقابية وسياسية يزيد عمرها عن نصف قرن.
وليس بالأمر الهين أن يكابد التونسيون المعروفون بنزقهم، ويولوا كل هذه الثقة برجل قال لهم إنه سيعبر بهم إلى الضفة الأخرى بسلام.
ما يمكن أن يُعول عليه في هذا الظرف الصعب موجود، متين ولم ينخره الفساد رغم بعض التجاوزات، وهما الجيش والقضاء، وهما بمثابة “الملاك الحارس” لهذا الشعب الذي عانى الكثير، وآن له أن يستريح مرتاح البال، مطمئنا على المستقبل بفضل ثرواته البشرية وواقعية السياسة الداخلية والخارجية التي تتبناها قيادته.
آن الأوان للقيادات النقابية أن تقتنع بأن التغول السياسي لن يفيدها في شيء، بعد أن أثبتت جميع الأحزاب فشلها إقليميا ودوليا، كما أن التونسيين ليسوا مغفلين، ولديهم من الاطلاع بصغائر ما يجري في صندوق النقد الدولي والعالم، لذلك جنحوا إلى الواقعية وطلقوا الشعارات التي أكلت قسطا كبيرا من قوت يومهم على مدى عقود من الزمان.
المهمة التي تنتظر قيس سعيد، بعد انقشاع السحب عن سماء تونس، ليست سهلة وسط أزمة عالمية أرخت بثقلها على أقوى اقتصادات العالم، لذلك وجب عليه أن يتسلح بثقة شعبه ويمضي في مشروعه الإصلاحي متسلحا بكفاءات وطنية يحسده عليها العرب جميعا.
ذاب الثلج وظهر المرج، احترقت أوراق المشككين بعد الانتخابات، وتبين على المكشوف أن الرجل ليس انقلابيا كما يروج له من طرف الإسلاميين على وجه الخصوص، كما أنه ليس دكتاتوريا يلقي بمعارضيه في السجون، ولا متخشبا يرفض التفاوض مع صندوق النقد الدولي ولا مع نقابات العمال.. “هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين” يا معشر خصوم قيس سعيد ومعارضيه.
ليس الأمر تحزبا لسياسي بلا حزب، لكن ما يصبو إليه وينتظره كل تونسي من قيس سعيد أن يستمر في إصلاحاته ويضاعف الجهود فعلا وعملا كي لا يقال عنه إنه ظاهرة صوتية.
يمكن القول إن “حرب المفاهيم” هذه حسمت لصالح قيس سعيد، بوضعه النقاط فوق الحروف، لكن الحروف تبقى من مكونات الكلام وليس الفعل الذي ينتظره جميع التونسيين.. والشعوب عجولة دائما، وانتهت أزمنة الصبر الطويل في عصر الرقمنة وإلغاء جميع المعطيات بمجرد الضغط على زر “ديليت”.