معرض من لوحتين يقدم رؤية بصرية لأحد أعمال جبران خليل جبران

دمشق - يعرض الفنان السوري غسان النعنع إلى غاية السادس عشر من فبراير المقبل، آخر ما جادت به مخيلته وأنامله من تصوير لرموز المسيحية كما عبّر عنها الأديب الراحل جبران خليل جبران في مؤلفاته، وهي عبارة عن لوحتين فقط يستضيفهما غاليري جورج كامل في دمشق.
وفتح الفنان التشكيلي بهذا المعرض باب النقاش والتأمل في منجزه الجديد أمام جمهور الفن التشكيلي على مستوى الأفكار والأسلوب والتقنية.
المعرض الذي تضمن جدارية مكونة من أربع لوحات كبيرة بالإضافة إلى لوحة بذات الحجم، جاء محملا بالأفكار والجماليات على مستوى الموضوع المطروح بأسلوب بصري جمالي يعتمد الإبهار في الهارموني اللوني، ونسب الضوء وتوزعها على سطح اللوحة.
أجواء مسرحية بأبعاد متعددة رافقت شخوص العملين اللذين يرويان أشهر ثلاثة مواقف تعرض لها المسيح رسول المحبة والسلام مع احترافية وحساسية عالية في التحكم بكل مكونات العملين، بهدف إبراز الحضور الحسي للمشهدية ككل.
وعن المعرض قالت الدكتورة لبانة مشوح وزيرة الثقافة إن “فكرة المعرض جاءت مميزة، فنادرا ما نشاهد معرضا للوحة أو لوحتين، بالإضافة إلى أهمية الأفكار المقدمة والجمالية التي قدمت بها، وخاصة في اللوحة الثانية التي ركز فيها الفنان على وضع جبران خليل جبران في مكان عال بألوان مشعة وبيده الكتاب، وسط غمامة سديمية والجميع مشغولون بأفكاره وأقواله”، مبينة أن من الضروري فتح باب التحليل لمثل هذه الأعمال من قبل النقاد التشكيليين في ندوات خاصة.
وأوضحت مشوح أن الفن التشكيلي السوري بما يمتلكه من فنانين وأعمال فنية مهمة يستحق أن يكون له متحف للفن الحديث، وهو ما خططت له الوزارة في عام 2012، ولكن الحرب على سوريا أخرت انطلاق هذا المشروع الثقافي المهم، لافتة إلى أن متحف الفن الحديث الافتراضي سيرى النور قريبا لتوثيق وعرض مقتنيات وزارة الثقافة من الأعمال الفنية وللمساهمة في نهضة الحركة التشكيلية السورية.
وقال الفنان النعنع “بدأت منتصف العام الماضي في العمل بهاتين اللوحتين وأنجزتهما مع نهاية العام بهذا الحجم الكبير الذي أفضله لما يتيحه لي من حرية في التعبير، وشعرت أنهما يستحقان أن يعرضا بهذه الطريقة لوحدهما كعملين منجزين تطلبا العديد من الدراسات قبل التنفيذ”.
وأشار إلى أن الجدارية حملت رؤيته بالخط واللون لكتاب “عيسى ابن الإنسان” لجبران خليل جبران مع تصوره للمحيطين بالمسيح، مؤكدا أن علاقة فكرية عميقة وطويلة تجمعه بأفكار ومؤلفات جبران.
والكتاب الذي استوحى منه الفنان التشكيلي أعماله، نشر للمرة الأولى عام 1928 باللغة الإنجليزية في نيويورك، وتمت ترجمته إلى العربية في عام 1962، وهو في بعض الترجمات يحمل عنوان “عيسى ابن الإنسان” وفي أخرى “يسوع ابن الإنسان”.

ويؤوّل جبران خليل جبران في كتابه حياة النبي عيسى وتعاليمه، في ضوء آرائه الصوفية، وهو يرسم صورة له من خلال ما يقوله عنه سبعة وسبعون شخصا عرفوه ويمثلون فئات بشرية مختلفة. وقد ابتدع جبران في كتابه منهجا جديدا في تحليل شخصية “يسوع” التي أضفى عليها صفة الفرح والمحبة والقوة والصلابة، والثورة والتمرد، والصبر والعمل، وذلك في أسلوب غني بالصفاء والسلاسة والفكر المجنح. ويختم الكتاب بمقارنة بين سوء فهم الناس للمسيح وتعاليمه، وصورة يسوع كما رسمها جبران المؤمن بالتصوف، فمسيح جبران ليس إلها كما يعتقد المسيحيون، بل إنسان حر جبار متمرد على التقاليد الدينية والاجتماعية، يعشق الفرح ويحمل إلى الناس رسالة الغفران والمحبة.
ومن كل ما احتواه كتاب جبران من رسائل، استدرج التشكيلي غسان النعنع الزمان والشخوص إلى سطح اللوحة بمستلزماتهم وصفاتهم المتخيلة، بعد أن هيأ لهم المكان المناسب ليضمهم بحميمية ويخلق بينهم علاقات متشابكة ورمزية جعلت لوحاته غنية بالمؤثرات البصرية والجمالية.
ووجد الفنان إدوار شهدا أن العملين اللذين يعرضهما غسان النعنع متكاملان ولا يمكن فصلهما عن بعضهما من حيث الفكرة والأسلوب والتقنية، رغم حساسية الأفكار التي يطرحانها، فهما يشكلان حالة جمالية تنتمي إلى المدرسة الرومنسية والحميمية المترافقة مع الضبابية، وهو أسلوب نادر في الفن السوري، مبينا أن تقديم عمل أو عملين في معرض مستقل يتيح لهما مساحة أكبر من التأمل والدراسة والتحليل.
يذكر أن غسان النعنع ولد في حمص عام 1953 ودرس في مركز الفنون التشكيلية بحمص، وتخرّج من كلية الفنون الجميلة، قسم التصوير في جامعة دمشق.

يبني الفنان لوحاته باستخدام نقرات قصيرة وخفيفة بفرشاة الرسم، ويضيف أحيانا قليلا من الألوان بأسلوب انطباعي يلامس التجريد. تستحضر المشاهد الضبابية والمسالمة ماضي الفنان، وتمثّل تأملات بالهموم اليومية، وهو ما يقول عنه “همّ الإنسان متجذّر في ذائقتي البصرية التي تكوّنت إبان حقبة كنت أركّز فيها على طبيعة الحياة والبيئة. وهي غنية بالتاريخ والعناصر الأساسية، كالمدينة وأسواقها والمنازل بأناسها والشخصيات بوجوه أنهكها العمل”.
وسواء كانت مشاهد طبيعية أم رسوما لشخوص، تمتاز لوحات غسان النعنع بالعذوبة والضبابية وأجواء الحنين.
ويشرح الفنان الأسلوب الذي يتّبعه قائلا “عندما أبدأ العمل، أترك العالَم خلفي وأعتمد على حدسي وذاكرتي، وعلى معرفتي بالألوان وغريزة المتعة. أنقل مشاعري مع شروعي في العمل”.
وغالبا ما يهتم غسّان النعنع بتجسيد الحالات الإنسانية المرتبطة بموضوعات الحياة المتعلّقة بروح الأشياء أكثر من العادي والزائل منها، فهو ينقل الإحساس بالحالة ولحظة التعبير التي تعكس تلك المشاعر المختلفة والخاصة بكل من تلك الشخصيات في الجلسة المستديرة، أو التي تضم عازفين مع آلاتهم في فضاء يرتدّ فيه صدى الصوت قويا. ولا يميّز المتأمل للوحاته بين الكائنات وظلّها جرّاء تداخل العناصر أو تماهيها في ضبابية مشهدية يتقّصدها الفنان التشكيلي، من أجل أن تعكس جزءا من الحالة النفسية والفلسفية التي تغلّف شخوصه في تلك اللحظات من الرسم.
وقد عرض الفنان التشكيلي أعماله على المستوى الدولي في سوريا وروسيا والسويد والمملكة المتحدة والأردن وقطر وبلغاريا وتونس وفرنسا ومصر.