كائنات السورية عُلا الأيوبي برمائية تتنفس تحت الماء

منحازة إلى المرأة والقيم الإنسانية، وجهت الفنانة التشكيلية السورية علا الأيوبي عبر لوحات معرضها الأخير دعوة للحب والسلام، يحضر فيها عالم البحر والمياه، حيث تبعث بعض شخوصها من أعماق البحار، وتبدو نساؤها في حالة هدوء وسلام.
تحت عنوان "موسيقى من تحت الماء، دعوة للحب والسلام" افتتحت الفنانة التشكيلية السورية علا الأيوبي معرضها الفردي في قاعة بوشهري. ضم المعرض 45 لوحة زيتية بأحجام مختلفة واصلت من خلالها الفنانة الدمج ما بين التعبيرية الواقعية والسحرية الرمزية لإيصال أفكارها عن الحياة والموت والحب. أفكار دارت حول المرأة التي تخطت أهميتها حدود أنوثتها.
وقدمت الفنانة العالم الذي شيدته في معرضها الجديد بهذه الكلمات “على هذا الكوكب، حيث لا نعرف للشر معنى، لا وجود لصراع البقاء بيننا. نحن نعيش مع كل مخلوقات هذا الكوكب بحب وسلام فلا وحوش غابة ولا فريسة، ولا حروب لأجل الاديان، ولا بيوت تهدم ولا تراث يدثر. لا تعرف قلوبنا خوفا من ظالم ولا غادر ولا ألم يصيبنا من مرض ولا نخاف من موت يفرقنا عن أحبتنا. لا شيء سوى الحب والسلام.. وكأن ترقص مع أنغام موسيقى تحت الماء وتطير الأسماك فرحا في يوم ربيعي أخضر".
شكل هذا المعرض، إذا، تجسيدا لأحلام السلام والتناغم ما بين الكائنات، مع العلم أن الفنانة الأيوبي تعلم أنه من الصعب تحقيق هذا الحلم على أرض الواقع لذلك أطلقت على معرضها عنوان "موسيقى تحت الماء، لأنه لا يوجد صوت تحت الماء" حسب ما ذكرت الفنانة.
◙ كائنات الفنانة تذكرنا بالفنان النمساوي غوستاف كليمت لاسيما لوحة "غولد فيش" حيث تظهر المرأة على أنها سمكة
المتأمل في لوحات الأيوبي سيعثر من ناحية على جانب مما أرادت الفنانة التعبير عنه. ربما ليس هناك سلام حقيقي، ولكن هناك حالات حمراء، دامية من تسلخات وولادات عديدة لكائنات برمائية تنسج بشرائطها الطائفة في مياه ضحلة وعميقة مشاريع لحياة لم تكتمل بعد ماهيتها.
ولا غرابة أن يكون طائر “الفلامينغو” ملكا في العديد من لوحاتها وذلك للونه الذي يحاكي هذه الولادات ولعنقه الطويل الذي يتناغم في موسيقى بصرية مع الشرائط والتيارات المائية الزاخرة بخلايا حيّة يكاد الناظر اليها يشتم فيها رائحة البحر وكائناته. أما "الدعسوقة"، الحشرة الحمراء المنقطة بالأسود، والتي حضرت كثيرا في لوحات سابقة لها، “غطست”، إذا جاز لنا التعبير إلى لجج ماء صافية رغم أنها توحي بالملوحة لتكون مع باقي الكائنات.
وأدخلت الفنانة السورية إلى بحرها آلات موسيقية تعزف عليها كائناتها البرمائية التي ليست إطلاقا بحوريات أو نسوة منتشية كما في المخيال الذكوري رغم مظهرها الأنثوي وحبذا لو لم تدخلها، أي الآلات الموسيقية، لأن نوع الموسيقى المعزوفة بتقطع، تقطع المشاهد البصرية الكثيرة الجلبة والتي وجدناها في ماء اللوحات ليست من النوع التي تصدرها الآلات. وهي من نسغ الدفق المائي.
دفق مائي كثيف تارة وخفيف تارة أخرى يحلو لنا أن نتخايل أخذ عينة منه لأجل تحاليل مخبرية لنتأكد بأنه نسغ الحياة أو لنقل أقرب إلى ماء المشيمة. وكيف لا وهو الماء الذي يحمل المعلومات عن الأجنة التي تتكون فيه؟ وهو الماء الذي يزود هذه الأجنة، الكائنات البرمائية بكل ما تحتاجه من أوكسجين وطاقة.
هنا تحديدا نذكر أن أعمال الفنانة الحاضرة والسابقة كانت شبه دوما بالغة الحسية ولا تستطيع أن تراها إلا من خلال توحد الجرح المفتوح مع تخثره واندماله. وما أقرب هذا التصور من حياتنا الإنسانية الدامية والمبرعمة كورود حمراء لا تنمو إلا في اتصال وثيق مع أشواكها.
وقول الفنانة التشكيلية إنها أطلقت على معرضها “موسيقى تحت الماء لأنه لا صوت تحت الماء” فيه مغالطة نوعية وفيه أيضا نوع من التصدي لأي كائن “حقيقي” يمشي على سطح الأرض من أن يلوث موسيقى “للسلام والحياة” لا يسمعها إلا عازفها (الكائنات البرمائية) ولا يستدل بها إليها إلا كل من يشبهها ومن يشبهها هو قليل، قليل.
وتريد الفنانة الأيوبي أن ترسم دعوة للحياة والسلام لأنه وكما ذكرت "وصلنا إلى زمن نخاف فيه من أقرب الناس إلينا ونحلم بحياة لا يوجد فها خوف ولا رعب ولا حروب لأجل الأديان أو لسبب سياسي أو مطمع"، غير أن الأيوبي لا ترسم الحياة والسلام إلا محفوفتان بمخاطر جمة.
ويظهر ذلك في التواشج والتداخل ما بين الشرائط المُحمرة التي تحيط وتسبح حول الكائنات وتبدو وكأنها شرايين، شرائط مسلخة وغير نازفة في آن واحدة. وصال أو تراقص أو عزف موسيقية ملتبس ما بين شرايين تؤمن الحياة وأخرى مُصابة وعليه قادرة على أضعاف الحياة وخنقها.
الاختناق حاضر في لوحات الفنانة السورية وهو اختناق مُلتبس لأنه يتدثر بمظهر الحياة غير أنه اختناق لم يكتب له أن يصل إلى مبتغاه. شرائط تستحيل أحيانا إلى ما يشبه الحبال تلامس أحيانا الأجساد السابحة كالحرير وأحيانا أخرى تكمّ رقرقة الماء كي "لا تُسمع الموسيقى تحت الماء".
وتذكرنا كائنات الفنانة التشكيلية الأيوبي بأكثر من لوحة بالفنان النمساوي العالمي غوستاف كليمت لاسيما لوحة "غولد فيش" حيث تظهر المرأة الصهباء على أنها سمكة وحيث يكون الماء رحما لها ولأمثالها من الأسماك الفضية والذهبية. غير أن كائنات الأيوبي أكثر انعتاقا من أقدارها وإن كان ثمن ذلك غاليا.
◙ الفنانة السورية دمجت ما بين التعبيرية الواقعية والسحرية الرمزية لإيصال أفكارها عن الحياة والموت والحب
الفنانة السورية علا الأيوبي من مواليد العام 1973، بدأت رحلتها الفنية مع النحت وتشكيل النحاس ورسم وجوه أهم مطربي العالم العربي ليصبح تركيزها على الوجه لاسيما وجه المرأة من أهم ما انهمكت بالتعبير عنه. حاصلة على الشهادة الأكاديمية للفنون التشكيلية – معهد الفنون الجميلة في دمشق.
وشاركت الفنانة بمعارض عديدة في سوريا وفي الكويت، واليونان. حاصلة على جائزة المؤسسة العامة للمعارض والأسواق الدولية في عام 2004 في دمشق. كما أقامت أكثر من 10 معارض فردية. غادرت الفنانة إلى الولايات المتحدة وأقامت معرضين أحدهما بعنوان "فاكهة الجنة". ويمكن اعتبار هاذين المعرضين مهمين جدا لناحية تطورها الفني إن كان في الأسلوب أو في المضمون.
ويشكل معرضها الحالي “موسيقى من تحت الماء، دعوة للحب والسلام” مثالا على تداخل الأفكار والبصريات التي رصدتها في معارضها السابقة. ففي هذين المعرضين أبدعت الفنانة الأيوبي في إدخال تفاصيل تشبه تعريشات تمدّ أغصانها في فضاء الشخوص ووجوهها. وهي في معرضها الحالي بلغت درجة قصوى في إظهار تلك التداخلات.
وبعد أن كانت ضرورية شبه حصريا لتحديد ملامح المرأة المرسومة في لوحتها هي اليوم تحمل مهمة إضافية وهي الانفصال عنها والطوفان حولها كالتيارات المائية المتأتية منها. كما أصبحت كائنات الفنانة الأنثوية هجينة لأن البحر أو الماء أكسبها القدرة على فتح العيون والتنفس تحت الماء.