الحشد الشعبي العراقي يستنسخ "التجربة الاقتصادية" للحرس الثوري الإيراني

وصول الإطار التنسيقي إلى السلطة يمهد للحشد طريق بسط نفوذه التجاري بالرضا أو الإكراه.
الثلاثاء 2022/12/27
معبر مندلي مع إيران لصاحبه الحشد الشعبي

مثلما كانت نهاية الحرب العراقية – الإيرانية فرصة للحرس الثوري كي يسيطر على قطاعات اقتصادية واسعة في إيران، مثلت نهاية الحرب على داعش فرصة أمام الحشد الشعبي للسيطرة على الكثير من المفاصل الاقتصادية في العراق. الآن صار لدى الحشد دفع إضافي بوصول السوداني إلى الحكم ممثلا عن مصالح الإطار التنسيقي.

رائد الحامد

تتجه قوى الإطار التنسيقي في العراق والمجموعات المسلحة المرتبطة بها، سواء ضمن تشكيلات الحشد الشعبي أو من خارجه، إلى تعزيز نفوذها في مؤسسات الدولة الاقتصادية، بعد أن بات الجزء الأهم من القرار الأمني خاضعا بشكل ما لنفوذ قياداتها الحليفة لإيران.

وتصاعد نفوذ هذه القوى في البلاد منذ تشكيل محمد شياع السوداني حكومته في نهاية أكتوبر الماضي، التي هي في حقيقتها حكومة الإطار التنسيقي. والإطار التنسيقي يمثل أجنحة سياسية لمجموعات شيعية مسلحة حليفة لإيران، تعمل تحت مظلة هيئة الحشد الشعبي أو خارجها.

وبعد انتهاء العمليات القتالية الكبرى ضد تنظيم داعش الإرهابي، في نهاية 2017، فرضت المجموعات الشيعية المسلحة سيطرتها على الملف الأمني في المحافظات المحررة (نينوى والأنبار وصلاح الدين). وافتتحت مكاتب تعزز قدراتها الاقتصادية عبر السيطرة على منافذ حدودية غير شرعية (مع سوريا)، والشراكة في عقود إعادة الإعمار، وفرض الرسوم على الشركات المحلية، وابتزاز رجال الأعمال والمستثمرين، واستيفاء رسوم شهرية من أصحاب المقاهي والمطاعم والتجار، بالإضافةِ إلى فرض رسوم على شاحنات نقل البضائع التي تدخل بعض المدن الخاضعة لنفوذها.

ومنذ سنوات عزّزت فصائل الحشد الشعبي انتشارها على الحدود العراقية – السورية لتأمين مرور الأسلحة والمقاتلين المرتبطين بفيلق القدس الإيراني إلى سوريا، وتحقيق المزيد من المكاسب الاقتصادية من خلال المنفذ الحدودي، أو عبر منافذ برية غير رسمية تشرف عليها تلك الفصائل التي تتواجد في منطقتي القائم العراقية والبوكمال السورية.

ومن المهم لهيئة الحشد الشعبي، التي ترتبط رسميا بالقائد العام للقوات المسلحة ولها مخصصات مالية في موازنة الدولة السنوية، أن تعزز إيراداتها عبر شركات كبرى تعمل تحت غطاء الدولة العراقية وبشكل رسمي. وبلغت مخصصات الحشد الشعبي من ميزانية الدولة في موازنة 2021 أكثر من 2.4 تريليون دينار عراقي (1.6 مليار دولار).

شركة المهندس

شركة "المهندس" هي النظير العراقي لشركة "خاتم الأنبياء"، الذراع الاقتصادية المهيمنة للحرس الثوري الإيراني

ومن بين أهم هذه الشركات شركة “المهندس العامة”، التي أقرها مجلس الوزراء وأعلن أنها ترتبط بالحشد الشعبي، لمنحه المزيد من النفوذ وإضفاء الشرعية على الاقتصاد الخاص به. وسُمّيت الشركة بذاك الاسم تيمّنا بنائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبومهدي المهندس، الذي قتلته غارة أميركية بأمر من الرئيس السابق دونالد ترامب في 3 يناير 2020 قرب مطار بغداد الدولي برفقة قائد فيلق القدس الإيراني اللواء قاسم سليماني.

في 28 نوفمبر 2022 وافق مجلس الوزراء على تأسيس شركة عامة باسم “المهندس” برأسمال مئة مليار دينار (68.5 مليون دولار)، ترتبط بهيئة الحشد الشعبي، استنادا إلى قانون الشركات العامة.

ويؤكد تسجيل شركة “المهندس”، بموجب قانون الشركات، اعتبارها شركة حكومية تتمتع بصفة قانونية، ما يجعلها خاضعة للرقابة والمحاسبة من الهيئات الحكومية المتخصصة في مكافحة الفساد.

لكن نفوذ قيادات الحشد الشعبي، بما فيها الفصائل المتنفذة، يجعل مثل هذه الشركة في منأى عن المحاسبة أو الخضوع للقضاء أو الهيئات المختصة بالنزاهة أو مكافحة الفساد.

وتوصف “المهندس” بأنها شركة عامة، لكن لم تحدد بعد تخصصاتها، باستثناء تصريحات أدلى بها مسؤولون حكوميون وتفيد بأنها شركة وطنية متكاملة للإعمار والبناء مع مصانع للمواد الإنشائية. ويمكن لشركة “المهندس” أن تهتمّ -على نطاق واسع- بالاستحواذ على نسبة من العقود، خاصة ما تعلق منها بإعادة الإعمار في المدن التي خربتها حرب السنوات الأربع ضد داعش (2014 – 2018).

عقوبات أميركية مرجحة

نفوذ قيادات الحشد الشعبي، بما فيها الفصائل المتنفذة، يجعل مثل شركة "المهندس" في منأى عن المحاسبة أو الخضوع للقضاء

الأخطر في ما يتعلق بتأسيس هذه الشركة أن نشاطاتها المالية قد تثير انتباه هيئات أميركية فتلجأ إلى مراقبتها، واحتمالات الكشف عن شبهات تعاونها مع الحرس الثوري الإيراني، أو مع شركات مرتبطة به ومدرجة على لوائح العقوبات الأميركية، ما يضع “المهندس” في دائرة هذه العقوبات.

ففي 12 يونيو 2019 قالت وزارة الخزانة الأميركية في بيان إن شركة “منابع ثروات الجنوب” سهّلت بشكل سري وصول الحرس الثوري الإيراني إلى النظام المالي العراقي من أجل التهرب من العقوبات. والشركة، وفق صحف غربية، ترتبط بشكل ما بأبومهدي المهندس، وساهمت في تخفيف تداعيات العقوبات الأميركية المفروضة على الحرس الثوري. وعملت شركة “منابع ثروات الجنوب” كواجهة لتهريب أسلحة بمئات الملايين من الدولارات إلى وكلاء الحرس الثوري داخل العراق. كما أنها نقلت الملايين من الدولارات بشكل غير مشروع لصالح الحرس الثوري والفصائل التابعة له في العراق.

وتشهد البلاد منافسة الحشد الشعبي لمؤسساتها العاملة في عدد من القطاعات ضمن المناطق التي كانت تحت سيطرة داعش، خاصة الاستحواذ على الجزء الأكبر من مشاريع إعادة الإعمار ومشاريع تنمية الأقاليم، تحت إشراف “الفصائل المتنفذة” في الحشد، وبعيدا عن إشراف مؤسسات الدولة.

ويمارس “الجهد الهندسي” في الحشد الشعبي عدّة نشاطات من اختصاص مؤسسات الدولة، مثل مد أنابيب الماء وحماية حقول النفط من الغرق، وغير ذلك من النشاطات التي تعكس قدرات الحشد وما يمتلكه من آليات وإمكانيات مالية وكوادر هندسية.

استنساخ التجربة الإيرانية

قيادات الحشد الشعبي تأمل في الاستحواذ على المزيد من القطاعات الإنتاجية في مجالات النفط والغاز وغيرها

تأمل قيادات الحشد الشعبي في الاستحواذ على المزيد من القطاعات الإنتاجية في مجالات النفط والغاز، وكذلك القطاعات الاستثمارية وعقود التوريد ومناقصات إعادة الإعمار وغير ذلك، على غرار شركة “خاتم الأنبياء”، الذراع الاقتصادية المهيمنة للحرس الثوري الإيراني.

وتخضع شركة “خاتم الأنبياء” للعقوبات الأميركية، وهي شركة تأسست بعد الحرب الإيرانية – العراقية، في نهاية ثمانينات القرن الماضي، من أجل إعادة إعمار إيران التي كانت بحاجة إلى الكثير من الموارد والمعدات والأموال لإعادة بناء ما دمّرته حرب السنوات الثماني (1980 – 1988).

واستغلت شركة “خاتم الأنبياء” القدرات المالية للحرس الثوري إثر الاستغناء عن مهامها القتالية، في حالة شبيهة باستغناء الدولة العراقية عن مهام الحشد الشعبي القتالية بعد أن أثبتت القوات الأمنية قدرتها على مواجهة تهديدات تنظيم داعش.

وبعد تأسيسها في عام 1989 أصبحت شركة “خاتم الأنبياء” من بين أهم المؤسسات الاقتصادية التي تمتلك قدرات مالية واقتصادية كبيرة، وصارت قادرة على منافسة مؤسسات الدولة الإيرانية، إذ شرّعت إيران قوانين تسمح للحرس الثوري بممارسة الأنشطة الاقتصادية في قطاعات البناء والتعليم والإغاثة والتصنيع والإنتاج الزراعي وتطوير قطاع النفط والاستيراد والتصدير وغير ذلك. وتمتلك “خاتم الأنبياء”، الشركة الأكبر والأهم في البلاد، أكثر من 800 شركة في قطاعات النفط والاستثمارات وإمدادات الطاقة والمياه وصناعات النقل والتعدين والمناجم والزراعة والتعليم والصحة وكافة قطاعات الدولة الاقتصادية والخدمية.

وتنحصر معظم المخاوف التي تثيرها بعض الأوساط العراقية في الخشية من أن تكون شركة “المهندس” نسخة مكررة من شركة “خاتم الأنبياء” المملوكة للحرس الثوري، والتي تستحوذ على معظم قطاع الاستثمارات في إيران، وتحتكر عددا من قطاعات الصناعة والطاقة والعقارات والخدمات.

وسعت الفصائل المتنفذة في هيئة الحشد الشعبي، والتي تستحوذ على قرار الهيئة، طيلة سنوات ما بعد انتهاء الأعمال القتالية الكبرى بخسارة داعش جميع معاقله الحضرية في نهاية 2017، لتعزيز نفوذها إلى حد أن هذه الفصائل صارت تمثل كيانا موازيا لكيان الدولة، ويمتلك مؤسسات خاصة به -ومن بينها مؤسسات اقتصادية- ومحاكم وسجونًا.

وباتت فصائل الحشد الشعبي تشكل ما يشبه المؤسسات الموازية لمؤسسات الدولة، أو بمعنى آخر “دولة موازية” في مقابل الدولة العراقية، التي تعاني أساسا من تضخم في أعداد العاملين والموظفين فيها.

6