نجاح العطار أول امرأة عربية تتولى منصب نائب رئيس جمهورية

دمشق - لا تزال بعض أنظمة الحكم في المنطقة العربية تعوّل على تصوّرات تقول بجهل الشعوب وعدم قدرتها على التمييز بين إجراءات الدولة، وبين ترميز تلك الإجراءات للاستفادة منها في عكس صورة عن النظام نفسه الذي يتخذها في رسائل متعددة الاتجاهات.
وبين أبرز أمثلة ذلك، المثال الساطع لنجاح العطار، الذي استخدمه النظام السوري مبكراً، لتمرير تلك الرسائل سواء إلى الداخل أو الخارج.
وفي بلد يقوده نظام سياسي منذ مطلع الستينات، مدّعياً أنه لا توجد فيه طائفية ولا محاصصة وفق المذاهب، برهنت كافة المسارات والمظاهر التي عاشها السوريون خلال العقود الماضية على نقيض ذلك، بل إن النظام السوري كان سبّاقاً إلى تكريس تلك المحاصصة قبل أن تعرفها المنطقة العربية وبلدانها.
النظام السوري يعدّ سبّاقاً إلى تكريس تلك المحاصصة قبل أن تعرفها المنطقة العربية وبلدانها واستثمار الطوائف لخلق التوازنات وبث الرسائل
ومنذ تولي حزب البعث السلطة عبر انقلاب عسكري قادته مجموعة تنتمي إلى أقلية علوية، والنظام مضطر إلى نفي تهمة الطائفية بتصدير وجوه من غير الطائفة الحاكمة، ليكون رئيس الوزراء سنياً ووزير الخارجية كذلك، وكان العرف أن يتولى حقيبة الثقافة وزير سني لما تعنيه الثقافة في سوريا من تماس مع الشخصية السورية المحافظة التي مثلتها النخبة، وكان هذا الكرسي من نصيب العطار منذ عهد حافظ الأسد فشغلت منصب وزيرة الثقافة لأكثر من 25 سنة، قبل أن تغادره إلى منصب نائب رئيس الجمهورية ولتكون أول امرأة تتولى مثل هذا الموقع.
في هذا الشتاء كان للعطار موعد جديد مع بشار الأسد، حين قلّدها من دون مقدّمات وسام ”أميّة“ أرفع وسام في الجمهورية العربية السورية، مقيماً لها احتفالاً كبيراً، قال فيه إن هذا الوسام ”لا يُقلَّد للعطار ليمنحها مكانة أو احتراماً تمتلكهما سلفاً، وإنما ليستمدّ الوسام منها القيمة والمقام والقدر والاحترام“.
طبيعة النظام العسكري الذكوري الذي تم التأسيس له في سوريا تتنافى مع دور المرأة في سدّة القيادة، ولهذا كان لا بدّ من وجه نسوي يزيّن النظام ويخفّف من خشونته، فلماذا لا تكون العطار ذلك الوجه، وأين؟ في وزارة الثقافة.
تلك المعادلة كانت الأنسب للنظام، لما تنطوي عليه شخصية العطار من معطيات من النادر أن تتوافر في غيرها، فهي الدمشقية وابنة المحدّث الشيخ محمد رضا العطار أحد أبرز وجوه السُنّة في سوريا، والذي كان عالما ومن رجال القضاء الشرعي والعدلي، وتولى أيضاً رئاسة محكمتي الجنايات والتمييز. وشقيقها هو المعارض العتيق لنظام البعث منذ بداياته، عصام العطار، الذي تنقل من قيادة الإخوان المسلمين إلى الحركة الإسلامية العالمية لاحقاً، فكان قطباً حاد النبرة في منفاه لا بد له من مكافئ في الداخل السوري يحقّق التوازن المطلوب، ومن غير شقيقته يمكنه أن يقوم بذلك؟
ابنة الشيخ في مدرسة الراهبات
قصة نجاح وعصام، في حدّ ذاتها تعبّر عن تمزّق الشخصية السورية حيال السلطات التي تتحكم بها، سواء أكانت تلك السلطات سلطة الدولة أم سلطة الأيديولوجيا، فالأخت تنتمي إلى حزب البعث الذي يعتبره الأخ الإسلامي حزباً دكتاتورياً، على الرغم من أنه كان أحد تلاميذ مؤسسه ميشيل عفلق في الماضي في مدرسة التجهيز الثانوية في دمشق، قبل أن يصبح خصماً لدوداً له في الحياة البرلمانية السورية. ووجود الأخ والأخت كمنخرطين في عقيدتين متناقضتين إلى هذه الدرجة في أسرة واحدة، يحمل دلالة عميقة لا يمكن إغفالها.
ولدت العطار في دمشق عام 1933، في أسرة ذات نسب هاشمي وكان أجدادها من أئمة الشافعية الكبار في بلاد الشام. ويمكنك تتبع كل تلك التأثيرات حين تصبّ في رصيد نظام يعتمد عليها على رأس الثقافة السورية.
كما هو متوقع من فتاة تنشأ في هكذا أسرة، فقد درست العطار الآداب والعلوم الإنسانية ومن ثم الإسلامية في جامعة دمشق، قبل أن تنتقل إلى المملكة المتحدة وتحصل من جامعة أدنبرة على الدكتوراه في الآداب. لكن الغريب أن هذه المسيرة العلمية كانت قد بدأت من دراستها الابتدائية في مدرسة الراهبات الفرنسيسكان في دمشق. فكيف كان شكل ذلك التديّن السُنّي السوري آنذاك، حين يضع الشيخ العطار ابنته الصغيرة في مدرسة للراهبات؟
حين عادت العطار من رحلتها الدراسية في بريطانيا، التحقت بسلك التعليم، فدرّست في المدارس الثانوية في دمشق، ثم انتقلت إلى وزارة الثقافة حيث مديرية التأليف والترجمة التي تولت رئاستها، وكنت خطوتها التالية هي الجلوس على كرسي وزير الثقافة منذ العام 1976 وحتى العام 2000.
دور العطار في الخلفية
حين تذكر المراجع الرسمية السورية عهد العطار كوزيرة للثقافة تشير إلى اكتشاف حضارة إيبلا، أول مملكة ذات قوة عالمية مسلحة في التاريخ، في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، وإلى إقامتها معارض أثرية وإسهامها في إطلاق أول مشروع لإنشاء متحف للفنون في البلاد. إضافة إلى بناء المعهد العالي للفنون المسرحية والمعهد العالي للموسيقى ومكتبة ”الأسد“ ودار الأوبرا.
لكن هذا لم يكن كل شيء، فما لا تقوله المصادر الرسمية هو الكيفية التي أدارت بها العطار الثقافة السورية والمؤسسات التابعة لها خلال ثلاثة عقود هي الأصعب في تاريخ سوريا المعاصر، بطريقة مكنتها من خلق توازن فريد، ولم تخلُ قراراتها من جرأة حين كانت تمسك العصا من المنتصف، وهي تسمع انتقادات هامسة، من أولئك الذين يشتكون من انتشار المحجبات والمحافظين في مؤسسات وزارة الثقافة السورية، وفي مواضع حساسة منها، كالمكتبات ودور المخطوطات والمتاحف والخزائن الأثرية، لكن لم يكن يجرؤ أحد من هؤلاء المنتقدين على الطعن في ولاء العطار، لقربها الشديد من الأسد الأب، ولمكانتها التي كان يحفظها لها الأخير على الدوام.
ما الذي كان يعنيه ذلك بالنسبة إلى العطار، وهي التي بقيت محجبة، من خلف تلك الباروكة الشهيرة؟ كان يعني إبقاء البعد السني موجوداً محافظاً على روح مّا داخل المؤسسات التي عصفت بها الطائفية والفساد. وما الذي كان يعنيه البعد السني هذا؟ ليس سوى عدم السماح بالمزيد من الأفكار التي رآها علماء الشام تهديداً للكينونة السورية الإسلامية، وشعروا أنها قد تنزع الهوية عن هذا البلد الذي يعتبره المسلمون ركناً أساسياً من أركان العالم الإسلامي.
وعندما وصل إلى مسامع العطار نبأ اغتيال زوجة شقيقها في مدينة آخن الألمانية مطلع ثمانينات القرن العشرين على يد عناصر تتبع للمخابرات السورية، يقال إنها لم تفتح فمها بكلمة، بل أغلقت باب مكتبها في الوزارة على نفسها وأجهشت بالبكاء. كانت تلك لحظة فارقة توجّب عليها فيها أن تتماسك، فما وضعته على عاتقها، كان، من وجهة نظرها يستحق التضحية والمزيد من الصبر.
بلا منافس
كانت المرأة الوحيدة التي لا يمكن منافستها على الحضور في الساحة السورية، حتى بوجود قرينة الأسد الأب، فالعطار بأبعادها المتعددة قادرة على أداء كل تلك المهام، والبقاء في توازنها الصعب.
الأسد الأب نفسه لم يكن ميالاً لفتح الباب على ضياع الهوية في سوريا، فهو أكثر من تغنى أمام ضيوفه بالأمويين وبمعاوية ودور دمشق كقلب نابض للعروبة، كان يريد الحفاظ على هذا كله، دون أن يجرفه شخصياً إلى التورّط في ما يتعارض مع انتمائه الطائفي، أو حتى مصالحه السياسية، وكانت العطار هي عصا موسى التي استخدمها لتحقيق ذلك.
لكن الأسد الابن يختلف عن أبيه، وبمجرّد وصوله إلى السلطة، قام بإزاحة العطار وإرسالها إلى المنزل، وعيّن بدلاً عنها وزيراً علوياً، دون النظر إلى كفاءته وقدرته على ملء الفراغ الذي خلفته العطار، ولعل هذا الخيار يعكس الفارق بين الأب والابن في موازنة الأمور وضبطها.
لم تكن العطار مثل الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، الذي كان أيضاً حجراً من أحجار ميزان الأسد الأب، كانت أكثر قوة من البوطي، فتحرّرها من الإسار الديني المحافظ، على الأقل باختلاف موقفها عن موقف أخيها عصام، كان كفيلاً بمنحها شهادة عبور إلى حيث تشاء، وبينما كان البوطي يكرّس حضور القبيسيات، التنظيم النسوي المتشدد الموالي للنظام، كانت العطار تميل إلى المعتدلين والمعتدلات في المجتمع، فهي القادمة من عالم الثقافة والمسرح والآداب لا من حلقات الذكر. وهذا ما لم يفهمه الأسد الثاني، رغم استعانته بوجوه بديلة في الإفتاء وغيره.
المسار الذي انزلق إليه حكم بشار في سنينه الأولى والذي انتهى بصدام مع المعارضين في الداخل، وتوتّر مع المحيط العربي كانت ذروته اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري واتهام الأسد وأجهزته مع حزب الله بتنفيذه أفضى إلى عزلة كان لا بدّ له من كسرها من جديد، عزلة داخلية جلبت معها العطار مجدداً في العام 2006 نائباً لرئيس الجمهورية، وعزلة خارجية كانت لديه من أجل الخروج منها حلول أخرى.
نبأ اغتيال زوجة شقيقها على يد عناصر تتبع للمخابرات السورية، حين وصل إلى مسامع العطار، لم تفتح فمها بكلمة، بل أغلقت باب مكتبها على نفسها وأجهشت بالبكاء
أما وزارة الثقافة فخضعت في عهده لتقلبات عدة، قبل أن يعود الأسد لمعادلة العطار ذاتها، ولكن مع رياض نعسان آغا الذي اصطدم في النهاية مع طبيعة النظام الشرسة. ويتم إخراجه من منصبه لتناقض رؤيته مع رؤية أسماء قرينة الأسد.
ومنذ ذلك الحين والعطار هي الحائط السني الصعب الذي يستند إلى النظام، ليس بالضرورة أن يكون حائطاً قوياً، لكنه موجود.
بالإضافة إلى دورها في وزارة الثقافة، فقد بسطت العطار نفوذها على مؤسسة هامة كانت تتبع لها إدارياً، هي اتحاد الكتاب العرب، وكانت ناشطة فيه مشرفة على كل صغيرة وكبيرة ضمن المؤسسة، ومنذ نهاية الستينات حرصت على رصد الأدب السوري بالتعاون مع كبار كتّابه الذين جلبتهم وعيّنتهم في الوزارة، مثل الروائي حنا مينة الذي أعدت معه كتاباً عن أدب الحرب، وآخر حمل عنوان ”من يذكر تلك الأيام“، صدر بعد حرب العام 1973. ناهيك عن مؤلفاتها مع علي عقلة عرسان الذي تولى رئاسة اتحاد الكتاب، أو إصدارتها الخاصة والتي من الطبيعي أن يكون من بينها كتاب بعنوان ”النسيج الثوري بين آذار وتشرين“. والقصد بالشهرين انقلاب البعث وانقلاب حافظ الأسد.
لم تتأثر العطار خلال العقد الماضي بما حصل في سوريا، وكأنه لم يقع أساساً، وبقيت تنظر إلى دورها العنيد على أنه تمكّن من حفظ شيء مّا أرادت حمايته.
وحين نظّم الأسد انتخاباته الأخيرة، كانت العطار حاسمة في موقفها المؤيد له، وقالت بلا تردّد إن ”سوريا لا يليق بها القيادة سوى من الرئيس الأسد“. ولعل كلماتها تحمل المعنى وعكسه وهي تعبّر عن نظرتين لبلد رأته يعبر كل تلك العهود وصولاً إلى ما هو عليه الآن.