لوحات الأردني غسان أبولبن محاولة لفهم علاقة الإنسان بالمكان

فنان يعيد تصوير ما تختزنه الذاكرة من مشاهدات بصريّة أو انفعالات.
الثلاثاء 2022/12/06
فنان برع في رسم البورتريه على طريقته

ولد الفنان التشكيلي غسان أبولبن في فلسطين لكنه عاش في الأردن، ورغم براعته في فن البورتريه إلا أنه وظف موهبته الفنية في محاولة فهم المزيج المركب لعلاقة الإنسان مع المكان والتي يعيد تفكيكها وتركيبها في سرد بصري يركز على الحالة الداخلية للشخصية التي قد تكون في حقيقة الأمر شخصيته هو.

عمّان – راكم التشكيلي الأردني غسان أبولبن تجربة ثرية استمد عناصرها الأساسية من البيئة المحلية واعتمد في تطويرها على التقنيات المعاصرة في التشكيل ومواكبة التجارب الحداثية على الساحة الفنية، ليعبّر في كل مرحلة من مراحل هذه التجربة عن مقاربات متنوعة للمدارس التشكيلية حيث التقارب مع الواقعية حينًا والتعبيرية حينًا آخر والتجريدية حينًا ثالثًا.

نزح أبولبن المولود عام 1964 مع عائلته من فلسطين إلى الأردن، وذلك بعد حرب يونيو 1967، وبدأت موهبته بالظهور وهو في عمر الطفولة، إذ كان يعمد إلى نقل صور الفنانين الموجودة على أغلفة علب الحلوى على الورق، مقلدًا الشكل وأبعاد الوجه والجسد، وفي مرحلة لاحقة بدأ يقلد رسم اللوحات التشكيلية الكلاسيكية، وفي حال لم تتوافر له الأوراق اللازمة كان يرسم على جدران البيت أو على كتبه ودفاتره المدرسية، وقد أسهم هذا النقل للرسومات في تدريبه على تتبع خطوط الأشكال والتحكم فيها وفهم أبعادها.

أبولبن من الفنانين الأردنيين الذين تنبهوا لأهمية التعبير عن المزيج المركب لعلاقة الإنسان بالمكان
أبولبن من الفنانين الأردنيين الذين تنبهوا لأهمية التعبير عن المزيج المركب لعلاقة الإنسان بالمكان

وحين أصبح أبولبن في المرحلة الإعدادية بدأ كتابة القصة والشعر، ووجد في نفسه ميلًا إلى قراءة أعمال كبار الشعراء والأدباء آنذاك من أمثال سميح القاسم ومحمود درويش ونجيب محفوظ. وفي المرحلة الثانوية ركز على رسم الشخصيات وامتلك أدواته الأساسية التي مكّنته فيما بعد من رسم البورتريه بحرفية عالية، وهذا ما شجعه على الدراسة في كلية الفنون الجميلة بجامعة اليرموك الأردنية حيث تخرج فيها عام 1987.

وبعد زمن قصير أقام أبولبن معرضه الشخصي الأول الذي احتضنته رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين، وقدم فيه أعمالًا تتسم بالصرامة الأكاديمية والدقة في تسجيل الواقع، وكانت الوجوه التي ركز عليها بالرسم تضج بالحيوية والحركة.

وفي معرضه الثاني الذي أقامه في غاليري بنك البترا عام 1989 قدم أبولبن، الذي كان قد نال الجائزة الأولى في مسابقة “فن الشباب” من المركز الثقافي الإسباني بعمّان عام 1988، لوحات أكثر نضجًا واحترافية، حيث بدت خطوطه واضحة ومحددة، وكشفت عن أسلوب عميق في فهم اللون ووظيفته وعن قوة التعبير البصري القائمة على تجاور الألوان التي تتقارب وتتمازج وتندمج مقدمة أفكارًا وموضوعات كبيرة بلغة بصرية مكثفة ودالّة.

وفي معارضه اللاحقة أصبح أبولبن، الذي صدر له ديوان بعنوان “لا أرى فِيَّ سواي”، أكثر ميلًا إلى الاختزال والتكثيف وتبسيط الأشكال، كما اهتم إلى حدّ كبير بالفن التجريدي وجاءت ألوانه مشرقة وقوية وحادة.

وبرع الفنان التشكيلي، الذي مُنح الجائزة الثانية في مسابقة مئوية لوركا من معهد سيرفانتس بعمّان عام 1988، في رسم البورتريه واستخدم في إنجاز لوحاته الألوان المائية والشمعية وأقلام الرصاص، وقدم وفق ذلك لوحات تصور وجوه شخصيات أدبية وفنية وفكرية، وكان في كل لوحة يستخدم أسلوبًا محدّدًا وبسيطًا يعبّر عن روح الشخصية ويستمد ثيمته من جوها العام أو سياق حياتها؛ فقد يرسم شخصية ما أثناء جلوسها في المقهى، أو قراءتها لكتاب، أو أثناء تحدثها. وأحيانًا يفضّل الرسم بلون واحد، كرسمه وجه الشاعر عدنان الصايغ، وغالبًا ما يكون ذلك بقلم الرصاص، وأحيانًا أخرى يُدخل لونين متجاورين في الرسم، كما في البورتريه الذي رسمه للشاعر طاهر رياض. ولعل ذلك الاقتصاد اللوني كان هدفًا للفنان، إذ أراد من خلاله إبراز دور الظل والضوء في اللوحة، والتأكيد على الحالة الداخلية للشخصية.

وفي عدد من لوحاته في رسم الوجوه وظّف أبولبن الألوان الزيتية بكثافة، مع مراعاة التدرج اللوني والانسجام الشكلي وأبعاد الشخصية الخارجية والداخلية، عاكسًا ذلك على سطح اللوحة.

للأمكنة سطوتها على الشخوص
للأمكنة سطوتها على الشخوص

وفي مطلع الألفية تنوعت المعارض والتجارب الفنية لأبولبن المتحصل على الجائزة الأولى في مسابقة دون كيخوته من معهد سيرفانتس عام 1999، وبدأ يخط أسلوبه الخاص بجرأة أكبر واقتدار، فأقام معارض استطاع فيها الجمع بين الشعر والرسم، كالمعرض الذي احتضنه غاليري الأورفلي في عمّان عام 2000، والمعرض الذي أقامه عام 2001 في متحف أتلبورو بالولايات المتحدة وتضمن أعماله في البورتيه، ومعرضه في غاليري مارك ببوسطن الذي حمل عنوان “شخص/ مكان”.

ويعد أبولبن من أوائل الفنانين الأردنيين الذين تنبهوا لأهمية التعبير عن المزيج المركب لعلاقة الإنسان بالمكان الذي يعيش فيه، إذ قام بإنجاز لوحات تفكك هذه العلاقة وتعيد تركيبها بصريًّا، وبشكل أساسي عبر التجاور اللوني والتعبير التجريدي.

الاقتصاد اللوني كان هدفًا للفنان، إذ أراد من خلاله إبراز دور الظل والضوء، والتأكيد على الحالة الداخلية للشخصية

ويقول في حوار معه حول هذا الأمر “إن ما تختزنه الذاكرة من مشاهدات بصريّة أو انفعالات أو تأملات يتشابك مع مفردات جديدة تتراكم على مراحل زمنيّة متفاوتة، ويصبح سطح اللوحة مجالًا لتقاطعات متعدّدة الطبقات”، مؤكدًا على أن مشروع أيّ لوحة يولَد قبل تنفيذها بسنوات أو ربما بلحظات، لكنه يمتد في جذر الذاكرة معيدًا صياغة تفاصيل سابقة ولاحقة معًا.

كما أنجز الفنان الأردني مشروعًا يقوم على تقديم سردية بصرية تجريبية توثق لجذوره، وتحديدا للمكان الفلسطيني، وتعبّر عن واقع سكانه تحت الاحتلال، وعمد في ذلك إلى استلهام رموزه من أحداث تاريخية عربية جرت فوق أراضٍ ثقافية تاريخية عربية ومنها بغداد ودمشق والأندلس والقاهرة. وعبر ما يقارب الثلاثين صندوقًا خشبيًّا معلقًا، مزج الفنان بين الألوان المائية والزيتية، ضمن لوحات ذات تكوينات تجريدية تعتمد على التجاور والتضاد وعلى التمايز في تدرجات اللون الواحد، مضيفة أبعادها الدرامية القوية على سطح اللوحة لتؤكد محورية القضية الفلسطينية وعدالتها.

وتوالت معارض أبولبن الذي يعمل محاضرًا متفرغًا في كلية التصميم بالجامعة الأردنية منذ عام 2000، وقدم من خلالها تطورات تجربته الفنية واشتغاله عليها، مركّزًا على مفردات الطبيعة والإنسان. وذلك في لوحات تتمدد فيها المساحات اللونية لتعبّر عن السهول والجبال والأشجار والوديان والورود، وتعبّر كذلك عن تجمعات إنسانية تم تكثيفها واختزال حضورها عبر بناء تكويني يقوم على التناغم اللوني والتجاور وعلى التقطيعات الأفقية والرأسية المدروسة وفق تسلسل هارموني متناغم.

Thumbnail
14