معرض مصري يعيد جدل العلاقة بين الفن التشكيلي والدراما

لا تجتمع الفنون الشعبية والنخبوية بسهولة، إلا إذا كان العمل الفني مشحونا بالكثير من الدلالات والمعاني والصور العميقة، وهذا الذي دفع شبابا مصريين موهوبين لإعادة تقديم مسلسل “جزيرة غمام” عبر لوحات تصور مشاهد وأحداث المسلسل الذي عرض رمضان الماضي ونال شهرة واسعة.
القاهرة - يظل التكامل الفني بين الأعمال التشكيلية والدرامية حاضرا في الصورة المتحركة التي يعبر عنها التلفزيون من دون وجود علاقة عكسية، بحيث تتحول المسلسلات أو الأفلام إلى تحليلات أكثر عمقا من خلال اللوحات التشكيلية، وهو أمر لجأ إليه أحد المراكز الثقافية المصرية وأخذ على عاتقه تحويل المسلسل المصري “جزيرة غمام” الذي عرض في رمضان الماضي إلى معرض تشكيلي متكامل.
على مدار ثلاثة أيام استمر فيها عرض اللوحات بقاعة “أوبونتو” بحي الزمالك في وسط القاهرة، خلال الفترة من الحادي والعشرين وحتى الثالث والعشرين من نوفمبر الماضي، وحقق نجاحا جماهيريا لافتا اضطر إدارة المعرض لتحديد وقت مخصص للفنانين التشكيليين الذين أسهموا فيه لالتقاط الصور التذكارية بعيدا عن الوقت المخصص للجمهور، ما فتح الباب لإمكانية المزج بين الفنون الشعبية التي تمثلها السينما والمسرح والدراما مع فنون النخبة التي يعد الفن التشكيلي من أهمها.
واستفاد أكثر من خمسين فنانا وفنانة شاركوا في إعداد اللوحات تحت إشراف مركز “منجم الثقافي” بمصر من المعالجات البصرية والمعاني الفنية التي تضمنها المسلسل، الذي تدور أحداثه منذ أكثر من مئة عام في إحدى الجزر الموجودة على البحر.
ويحكي المسلسل الذي حصد 6 جوائز في مهرجان القاهرة للدراما قصة آثار الوافدين على الهدوء الذي يسود القرية، حيث يستقر خلدون وقام بدوره الفنان طارق لطفي والعايقة وقامت بدورها الفنانة مي عزالدين في “جزيرة غمام” ويحاولان السيطرة على أهل الجزيرة ظنا أنها تحوي كنزا وسرا كبيرين لا يعلمهما أحد ويحاولان بسط نفوذهما لتنفيذ مخططهما.
معرض "جزيرة غمام" فتح الباب لإمكانية المزج بين الفنون الشعبية مع فنون النخبة التي يعد الفن التشكيلي من أهمها
الثراء والعمق
قال مؤسس مركز “منجم الثقافي” الفنان التشكيلي محمد خضر إن اختيار المسلسل لتحويله إلى لوحات تشكيلة يرجع إلى الثراء والعمق الفني الذي يحتويه وقصصه المنسوجة بحكايات مؤثرة عن تداخل الخير في الشر والعكس، وجميعها تساعد الفنان التشكيلي على أن يستنبط معاني ورموزا تشكيلية تُمكنه من إبداع لوحات متميزة، كما أن المسلسل حقق نجاحا تطلب الاحتفاء به من خلال فعاليات فنية مختلفة.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن الحضور الجماهيري الكبير للمعرض سلاح ذو حدين، فهو إشارة إيجابية لاهتمام الجمهور بأحد الفنون التي يُقدم عليها جمهور الصفوة من التشكيليين والمثقفين في المقام الأول، وفي الوقت ذاته لم يمنح الفرصة لأن يتم تحليل اللوحات والتمعن في معانيها بالشكل المطلوب.
وأوضح خضر أن المعرض حمل أغراضا عديدة، حيث هدف للربط الجماهيري بين الدراما باعتبارها فنا شعبويا وبين الفن التشكيلي النخبوي والتأكيد على أنه لا انفصال بين الفنون المختلفة، إلى جانب اكتشاف المواهب وتشجيع الشباب على عرض لوحاتهم، وقد حقق المعرض أغراضه الفنية قبل عرض اللوحات من خلال جذب الفنانين الشباب واستكشاف قدراتهم الفنية بجانب الأهداف التجارية التي تحققت.
من يؤثر في الآخر
مضى المعرض على نهج أعمال سينمائية ودرامية عالمية جرى الاحتفاء بها وتحويلها إلى لوحات تشكيلية، وهو أمر يعتبره الكثير من الفنانين التشكيليين تسلسلا للاستفادة من النجاحات التي تحققها ألوان عدة من الفنون مثل تحويل الروايات المقروءة إلى مسلسلات وأعمال سينمائية عبر إعادة صياغة ومؤثرات مختلفة تمنح زخما للفن التشكيلي عبر الاستلهام من الفنون الشعبية الناجحة.
وتواجه العلاقة بين الفنون التشكيلية بوجه عام والأعمال السينمائية والدرامية بالعديد من التعقيدات في ظل قناعات مختلفة بأن أيا من الفنون يتفوق على الآخر دون الإدراك الكامل بأنهما منفصلان ويكملان بعضهما البعض.
كما أن الفن التشكيلي قد يكون حاضرا في الأفلام السينمائية والأعمال الدرامية عبر تشكيل الصور المتحركة، وقليلا ما يتم توظيف المسلسلات لتحويلها إلى لوحات فنية.
وأشار خضر لـ”العرب” إلى أنه فكر في العكس، وأن يكون الفن التشكيلي حاضرا كأساس يعبر عن الأعمال الدرامية وليس استخدامه ضمن عناصر صنع الصورة، وهدف إلى تحويل الصورة الدرامية إلى لوحة تشكيلية بالاستعانة بفنانين تأثروا بالصورة التشكيلية للتأكيد على أن كليهما يتكامل مع الآخر، ويصعب التعرف على من الذي يؤثر في الثاني أولا، وأن العلاقة بينهما تكاملية وتبادلية في الوقت ذاته.
وعبرت اللوحات عن بعض المشاهد في مسلسل “جزيرة غمام” الذي قام ببطولته الفنان أحمد أمين وحضر افتتاح المعرض، لكن الجزء الأكبر عمد إلى استخلاص المعاني من المشاهد التي تضمنتها وقدم تحليلا تشكيليا لما جاء فيه من مؤثرات بصرية.
ويمنح النجاح الجماهيري الذي حققه المعرض فرصة مواتية لتسليط الضوء على العلاقة بين الفنون عامة، وإبراز المزيد من الأبعاد التشكيلية التي تأخذ حيزا مهما في إطار الصورة والتعرف على كيفية التأثير للشكل الجمالي على المشاهد الفنية المتحركة، وإمكانية التعرف على تأثير السينما والدراما في الفنون التشكيلية وتطورها وإتاحة الفرصة أمام الطاقات الفنية في مصر للظهور على نحو أكبر.
وأكد الفنان التشكيلي عزالدين نجيب أن معايير قياس العمل الدرامي تختلف عن قياس الفن التشكيلي، لأن لغة كليهما مختلفة، والعمل الدرامي لديه امتدادات زمنية، لكن اللوحة تتم مشاهدتها في لحظة يمكن الإلمام فيها بكافة أبعادها دون الاحتياج لهذا الزمن.
وأضاف لـ”العرب” أن الدراما التي تتواجد في العمل السينمائي أو المسرحي أو التلفزيوني تمر بمراحل نمو وتطور في زمن وأحداث معينة، بينما العمل التشكيلي لا يتطور بالقدر ذاته ويأخذ في التطور بشكل آخر في خيالات المشاهد.
وذكر أن العملين يوحد بينهما شحذ للمشاعر والتعبيرات العديدة ويختلفان في ما بينهما بشكل كبير فلغة الصورة تقوم على جماليات اللون والخط والمساحة والفراغ والملمس وغيرها، بينما لغة الدراما تقوم على الحركة والأبعاد المختلفة للصورة وعمق المشهد.
وشدد نجيب في تصريحه لـ”العرب” على أن البناء الدرامي لا يكتمل دون البناء التشكيلي، وتبرز هنا أدوار مهندس الديكور ومصمم الملابس والمخرج، كما أن نجاح الأعمال الدرامية يتطلب رؤية تشكيلية وحاسة بصرية وجمالية لمخرجه تساعده على تقديم تصوير بصري للمشهد الذي يقدمه.
الغوص في التفاصيل
قد تكون الأعمال الدرامية ملهمة للفنان التشكيلي بمشاهد وشخصيات تعبيرية كفن قائم على المدرسة الفنية التعبيرية التي تعد الدراما أحد روافدها، والاستلهام ليس بالضرورة أن يكون عبر رسم لقطات بشكل مباشر وقد يكون بحس تشكيلي ما يتطلب موهبة إضافية للفنان الذي يقوم عليها لأنه يقوم بتحليل بصري لا يقوم على القصة أو السرد ويغوص في تفاصيل ما بعد الحكاية المقدمة للجمهور بشكل مباشر عبر المسلسل الدرامي أو الفيلم السينمائي.
ويتفق البعض من النقاد على أن السينما فن يُعبر عن الواقع من خلال الواقع نفسه، وعبر أشياء وكائنات مستخلصة منه، وهو ما يختلف عن الفنون الأخرى، ومنها التشكيل، إذ يتم التعبير عن الواقع بإشارات ورموز مختلفة، والمتلقي في حالة الصورة سواء أكانت قابلة للفهم أو غامضة يدرك أنها مرسومة سلفا ويصعب مطابقتها مع الحياة وإن كانت شبيهة، على عكس الدراما التي تحاكي الواقع وتقترب من تفاصيله.
وقال الفنان التشكيلي محمد الطويل إن تطويع الدراما لصالح الفن التشكيلي لا ينفصل عن الصورة الإيجابية التي أصبحت واضحة لهذا النوع من الفنون في الدراما والسينما، والعديد من الأفلام أظهرت اهتمام أبطالها بالرسم بعيداً عن الصورة القديمة التي هيمنت عليها السخرية وعمدت إلى إظهار الفنان التشكيلي كشخص “بوهيمي” لا يعرف أحد ماذا يريد من فنه الذي يقدمه؟
وذكر في تصريح لـ”العرب” أن إلقاء الضوء على النجاحات التي حققها فنانون تشكيليون تاريخيون في مصر، مثل محمود سعيد وراغب عياد، وما حققته لوحاتهم من نجاحات فنية وتجارية طائلة بعد عقود من رسمها، يمنح فرصة لتشجيع الأجيال الصاعدة على أن تمضي على الطريق ذاته، ما يسهم في ابتكار معارض ذات أبعاد فنية مختلفة، كما هو الحال لما قدمه الشباب في معرض “جزيرة غمام”.
وسبقت تجربة “جزيرة غمام” تجربة أخرى مستوحاة من نفس الفكرة عبر المعرض التشكيلي “أكشن” للفنان المصري حسني أبوبكر، والذي وظف حبه للدراما وعمله كممثل وفنان تشكيلي أيضا بأن ينقل روح السينما إلى لوحات معرضه الذي نظمه في أكتوبر الماضي، وعمد من خلال 35 لوحة إلى
إبراز التراث المصري والحفاظ على الهوية موثقا لنماذج وأشكال من الحياة، في محاولة للحفاظ عليها من الانقراض.