حروب العقائد التي لا تنتهي حول العالم

طوى الخطاب الصارم الذي قدمه اجتماع وزراء خارجية حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بوخارست ضد “العدوان الروسي” على أوكرانيا، والاستعداد الذي أبداه الحلف لدعم أوكرانيا بالأسلحة والمساعدات، صفحة اعتقاد أن دول الحلف بدأت تشعر بالإنهاك بسبب الضغوط الاقتصادية، أو أن عزمها على مساندة أوكرانيا إلى ما لا نهاية بدأ يضعف.
لندن – قدم اجتماع بوخارست صورة معاكسة تماما للمشككين في مواقف الغرب من مواصلة دعم أوكرانيا في وجه الغزو الروسي. فالأسلحة لن تزداد فحسب، وإنما ستصبح أكثر تطورا. وعلى الرغم من أن الحرب عادة ما لا توفر متسعا من الوقت لاستبدال نمط تسلّح بآخر، إلا أن حلف شمال الأطلسي (الناتو) أعرب عن عزمه على مساعدة أوكرانيا في التخلص من أسلحتها القديمة “السوفييتية” لتحل محلها أسلحة غربية حديثة، بينما يتولى عدد من دول الحلف تقديم التدريبات لآلاف الجنود الأوكرانيين ومن يتطوع لخوض الحرب إلى جانبهم.
كما لن يكون هناك نقص في المساعدات الإنسانية والمعدات التي تسمح بالتغلب على محاولة روسيا جعل الشتاء سلاحا لتثبيط عزم الأوكرانيين على مواصلة القتال.
بل أبعد من ذلك، أعيد الاعتبار لكون أوكرانيا وجورجيا مرشحين لعضوية الحلف.
صدمة للروس
هذه النتائج يمكن أن تُعد بمثابة صدمة كاملة بالنسبة إلى موسكو. وهي تعني شيئا واحدا فقط، هو أن عليها أن تقبل الهزيمة، بكل ما تعنيه، لا أن تقتصر فقط على مبدأ الانسحاب من الأراضي الأوكرانية واستعادة البلد لوحدته وسيادته.
وربما كان انحسار المخاوف من لجوء روسيا إلى استخدام أسلحة نووية أحد الدوافع التي تشجع الناتو على أن يتبنى موقفا صارما حيال دعم أوكرانيا “طالما كان ذلك ضروريا”، إلا أن هذا الموقف يعني قبول المقامرة النووية أيضا. حينها سيتعين على موسكو أن تقرر من هو الطرف الذي ستختار قتله قبل أن تنتحر بسيل من الصواريخ النووية.
الخيار النووي يمكنه أن يضع نهاية سريعة للحرب. ولكن هذا الخيار لا يبدو خيارا عمليا، ليس بسبب مخاطره، بل لأن الطرفين يريدان للحرب أن تستمر إلى أبعد مدى زمني ممكن.
الرهان على حرب تمتد لسنوات وعقود، ليس رهانا عسكريا فقط؛ إنه رهان على قدرات المغالبة الأخرى من قبيل الصمود الاقتصادي وطاقة إنتاج الذخائر وتوفر الموارد البشرية وغير ذلك. فبينما تعتمد الحروب القصيرة على الإمكانيات العسكرية المتاحة، مما يتوفر في المخازن، تعتمد الحرب الطويلة على آليات التوريد والإنتاج، وهو ما جربته الدول الأوروبية والولايات المتحدة وروسيا نفسها خلال سنوات الحرب العالمية الثانية.
والدلائل التي تشير إلى أن الطرفين ينتهجان هذا المسار كثيرة؛ إنهما يقدمان للجبهات ما يتوفر في المخازن بينما يدفعان آلة الإنتاج لتوفير المزيد.
هذه الوقائع إنما تشير إلى أن الحرب لم تعد تقصد الوصول إلى “تسوية” بل “الانتصار على العدو”. ببساطة، لأنه لم يعد هناك ما يمكن التفاوض عليه.
عندما يتحول النزاع السياسي إلى نزاع عقائدي يصبح التفاوض لا نفع فيه، ومع تحوّل المطالب المتضاربة إلى مطالب مقدسة لن تتوفر قاعدة للرضا بنتائجه. ولكي يمكن القبول بمبدأ التفاوض، فإنه يتطلب هزيمة مسبقة لأحد الطرفين، ليأتي إلى الطاولة من أجل الاستسلام والقبول بكل شروط المنتصر.
والحرب تُصبح حربا عقائدية عندما تقوم على مقدسات غير قابلة للنقاش، وكل طرف فيها يشيطن الطرف الآخر، بينما يقدم نفسه كضحية، ويبرر أفعاله كعمل من أعمال الدفاع عن النفس. ولا يعود من المهم فيها ما يقع من خسائر أو ما يتم تقديمه من تضحيات.
لقد عرفت المنطقة العربية شيئا مطابقا تماما لهذا الواقع في الحرب العربية – الإسرائيلية، وتاليا في الحرب الفلسطينية – الإسرائيلية. أولا، لأن الأمر يتعلق بمقدسات. وثانيا، لأن الآخر شيطان يريد إبادتنا وتدميرنا ونهبنا. وثالثا، لأن الفداء والتضحيات هما من أبرز أدوات المعركة. ورابعا، لأنه لا توجد منطقة وسطى، إلا لتلك التي تنشأ من قبول الهزيمة والاستسلام للأمر الواقع.
تحوّل طبيعة النزاع
بدأت روسيا الحرب بزعم أن الغرب يهدّدها ويريد تمزيقها، وأن الأراضي التي قررت ضمها من أوكرانيا هي أراض روسية في الأصل، بل إن أوكرانيا كلها تابعة لروسيا، وأن هناك نازية جديدة فيها، وأن الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي هو الشيطان بحد ذاته، وأن “روسيا الجديدة” ستقوم على أنقاض النظام الدولي الراهن لتبني نظاما دوليا جديدا.
أين يمكن التفاوض حول معايير كهذه؟ لا شيء ممكن قطعا.
تريد أوكرانيا استعادة أراضيها المحتلة وسيادتها ووحدتها وفقا للقانون الدولي. وتقول إن هناك جرائم حرب ارتكبت وتجب محاكمة المسؤولين عنها، وإن على روسيا أن تدفع تعويضات عما ألحقته بها من خسائر، وإنها لن تتفاوض مع الرئيس فلاديمير بوتين، لأنه هو الشيطان الذي تسبب في كل هذه المآسي، وإن الأوكرانيين سوف يدافعون عن أرضهم حتى آخر جندي، وإنهم لا يفعلون ذلك من أجل أوكرانيا وحدها، وإنما من أجل العالم الحر برمته، وإنه لا سبيل حتى لوقف إطلاق النار لأن روسيا سوف تستغله لإعادة تجميع إمكانياتها للهجوم على أوكرانيا وغيرها من دول الإمبراطورية السوفييتية السابقة.
أين يمكن التفاوض حول معايير كهذه؟ لا شيء ممكن قطعا هنا أيضا.
يقول كريستوفر بلاتمان في مقال نشر في مجلة “فورين أفيرز” في 29 نوفمبر الماضي إن الحروب “هي أسوأ طريقة لتسوية الخلافات السياسية، وهي تنتهي عندما تتضح تكاليف القتال، إلا أنها تستمر لفترة أطول عندما لا تتوفر التسوية لثلاثة أسباب إستراتيجية رئيسية: عندما يعتقد القادة أن الهزيمة تهدد بقاءهم، وعندما لا يكون لدى القادة إحساس واضح بقوتهم وقوة عدوهم، وعندما يخشى القادة من إمكانية أن يزداد خصمهم قوة في المستقبل”. ويضيف أن “هذه هي الديناميكيات التي تجعل الحرب في أوكرانيا تستعر”.
انحسار المخاوف من لجوء روسيا إلى الأسلحة النووية شجع الناتو على تبني موقف صارم حيال دعم أوكرانيا
ويخوض الفلسطينيون والإسرائيليون حربا من هذا النوع. تمكنت إسرائيل من هزْم الدول العربية في عدة حروب. وأقنعتها بأن “ترضى من الغنيمة بالإياب”، إلا أنها لم تتمكن من هزْم الفلسطينيين. أقنعت منظمة التحرير الفلسطينية بتقديم الكثير من التنازلات، وهي مازالت تحارب من أجل فرض المزيد من “الأمر الواقع”، حتى لم يعد هناك ما يمكن التنازل عنه. وأصبح الاستسلام المطلق هو الخيار الوحيد المتاح، أو الموت بالمفرق، والخنق بالجملة.
لا يمكن وضع هذا التطابق في إطار تناظر حقوقي، بحيث تكون أوكرانيا هي الفلسطينيين، وروسيا هي إسرائيل، لاسيما وأن التحالف الدولي الذي يدعم أوكرانيا يقلب العملة بالنسبة إلى الصراع في المنطقة.
ولكن ما لا مفر منه في كلتا الحالتين هو أن الحرب الدائرة هنا أو هناك ليست من النوع الذي يمكن النظر إليه على أنه “أسوأ طريقة لتسوية الخلافات السياسية”، لأنه لا توجد “خلافات سياسية” وإنما خلافات على مقدسات، وقناعات مفروغ منها لدى طرفي النزاع.
يستشهد بلاتمان استشهادا شجاعا بفرانز فانون لدى مقارنة المقاومة الأوكرانية بنضال الشعوب -بما فيها الولايات المتحدة نفسها- ضد الاستعمار قائلا “المقاومة الأوكرانية الشديدة لأي اقتراح للتسوية ليست غريبة. ويتكرر هذا التعنت على مر التاريخ كلما قررت الشعوب المستعمَرة والمضطهَدة النضال من أجل حريتها رغم كل الصعاب. ترفض القهر لأسباب عديدة، منها مزيج من السخط والدفاع عن المبادئ. فالتنازلات -للإمبريالية والسيطرة- هي ببساطة شيء بغيض، حتى بالنسبة إلى الضعفاء. كما كتب الفيلسوف السياسي المناهض للاستعمار فرانز فانون في كتابه الكلاسيكي (معذبو الأرض) الصادر عام 1961: نثور ببساطة لأننا، ولأسباب عديدة، لم نعد قادرين على التنفس”.
الفلسطينيون يثورون في الحقيقة لأنهم لم يعودوا قادرين على التنفس، أكثر بكثير من الأوكرانيين. أما الحرب فإنها مشروع طويل جدا، ليس لأنها أسوأ الخيارات، وليس لأنها تتطلب حلولاً وتسويات، بل لأنها حرب مقدسات تتطلب استسلاما من الآخر.
ذلك هو شرطها الأول. وهي على هذا الأساس ليست حربا تبدأ لكي تنتهي، وإنما هي حرب تبدأ لكي ينتهي أحد الطرفين.