الشعوب العربية على دين ملوكها في التطبيع مع إسرائيل

تحريض الإعلام القطري أثمر شكاوى من مقاطعة إسرائيل في المونديال.
الأحد 2022/11/27
الود السياسي لا يصل إلى الشارع

بعض الدول العربية التي توصلت إلى اتفاقيات مع إسرائيل لم تنجح في أن تحول التطبيع إلى واقع شعبي كما تريده تل أبيب. وهذا مفهوم، فإسرائيل لا تعطي مواقف ولا سلوكيات مشجعة تجعل من يقترب منها أو يتفق معها ينقل التطبيع على أرض الواقع ليقبل به الناس ويتفاعلون معه.

سلّطت بعض وسائل إعلام إسرائيلية الضوء على ما وجدته تغطيتها لأحداث المونديال المقامة في الدوحة من سلبية وعدم تجاوب من مواطنين قطريين للحديث معها في شأن رياضي والشعور العام حيال المناسبة، وهي مسألة حمّلها البعض أهدافا سياسية، وأنها انتصار للقضية الفلسطينية ورسالة دعم جديدة من الشعب القطري لها.

وفسّرها آخرون على أنها نتيجة عاطفية طبيعية لجرعات الشحن والتحريض التي تقوم بها شبكة الجزيرة وأخواتها من خلال تغطيتها لبعض الأحداث الفلسطينية، والتي توحي بأن القيادة القطرية تقف موقفا صارما من الانتهاكات التي تقوم بها القوات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، ومصممة على دعم نضال المواطنين.

قد يمرّ عتب الإعلام الإسرائيلي ولا أحد يعلم هل هو موجّه إلى قطر بشكل خاص أو إشارة غمز بها إلى القيادات العربية التي وقّعت اتفاقيات سلام مع دولتهم، وهل هو شهادة إخفاق لقياداتهم التي نجحت في زيادة هذه الوتيرة مؤخرا وأن المسافة بين السلام مع الحكومات والتطبيع مع الحكومات لا تزال بعيدة.

يحضر هنا استدعاء تلقائي للنموذج المصري، حيث وقعت القاهرة اتفاقية سلام مع تل أبيب منذ أكثر من أربعة عقود تطورت فيها العلاقات الرسمية ووصلت إلى مستوى رفيع من التعاون في مجالات مختلفة، غير أن إشكاليات التطبيع على المستوى الشعبي لم تحقق التقدم الذي تنشده إسرائيل مع مصر.

التذبذب يصيب الشعوب.. أيضا

يعيد الموقف القطري ومن قبله المصري التذكير بالمثل العربي الشهير “الناس على دين ملوكهم”، فالحكومات التي تحسم موقفها السياسي وتتبنّى رؤية واضحة، سلبا أو إيجابا، سوف تميل شعوبها إلى هذه أو تلك، كما أن الارتباك والتذبذب يصيب الشعوب بالداء نفسه، والدول التي حزمت أمرها يتعامل مواطنوها مع القضية كمسلّمة سياسية، قد لا يأخذون الإسرائيليين بالأحضان، لكن لا يتعاملون معهم بعدوانية.

بات التناغم في المواقف الرسمية والشعبية شيئا نادرا، بعد أن تحوّلت الشعوب إلى ورقة للمتاجرة السياسية، لأن غالبية الدول العربية لا تتمتع بدرجة عالية من الديمقراطية تخوّل المواطنين للتعبير عن آرائهم ومواقفهم بحرية.

عندما التقط القطريون أن حكومتهم تتقرّب من إسرائيل ظهروا بما يوحي أنهم يدعمون التطبيع ويطربون لموسيقاه، ووقت أن وجدوا إعلامهم يبدي تعاطفا مع الفلسطينيين مالوا إليهم، لذلك فالقضية لها أبعاد مركّبة هي التي تحدّد البوصلة للشعوب أكثر من كونها ناجمة عن اعتبارات فطرية أو حسابات قومية، وتحمل داخلها تقديرات تتعلق بما تريده قطر من إسرائيل في كل مرحلة وما تريد إرساله إلى الشعب الفلسطيني أيضا.

◘ الإعلام الإسرائيلي لم يجد أي تجاوب من مواطنين قطريين للحديث معه في شأن رياضي
الإعلام الإسرائيلي لم يجد أي تجاوب من مواطنين قطريين للحديث في شأن رياضي

وقّعت القاهرة أول اتفاقية سلام مع تل أبيب، وتعرّض الرئيس الراحل أنور السادات إلى انتقادات واسعة مصرية وعربية لم تثنه للتراجع عن خطوته في حينه وتعرّض لمقاطعة شبه جماعية، وصمد أمامها ثم انهارت على وقع خلافات عربية متباينة.

جاء بعده الرئيس حسني مبارك وبدأ يستثمر في تصاعد الغضب في صفوف بعض الأحزاب اليسارية والجماعات الدينية حيال إسرائيل، ولم يرهن التطبيع الشعبي بالسلام ليس إيمانا بالعقل الجمعي للمواطنين، بل لأنه وجد فوائد سياسية بهذا الطريق.

لم تتغير العلاقة الجدلية حتى الآن، على الرغم من حدوث تطورات كبيرة في العلاقات الرسمية بين مصر وإسرائيل، ولم تطلب القاهرة من المواطنين الانصراف عن التطبيع أو تدفع نحو إقبال عليه، لأن هؤلاء لديهم ما يكفي من قرون الاستشعار التي تمكّنهم من معرفة أين يضعون أقدامهم، فالنظام المصري الذي طوّر علاقته بحكومات إسرائيلية مختلفة يحرص على الاحتفاظ بهامش مناورة من النافذة الشعبية.

تراجعت كثيرا فكرة التعويل على الشعوب في إدارة العلاقات مع إسرائيل، ولم يعد رفضها العام هو الذي يحول دون المزيد من تطبيع العلاقات، فقطر التي فتحت جميع أبوابها لإسرائيليين قبل سنوات من استضافتها لكأس العالم هي نفسها التي كانت وسائل إعلامها تصرخ ليلا ونهارا دفاعا عن الشعب الفلسطيني وتدين قوات الاحتلال.

ولأن الشعوب تعرف المواقف السياسية من وسائل الإعلام الرسمية من الطبيعي أن يبدو الشعب القطري غير متجاوب مع القنوات الإسرائيلية التي ذهبت إلى الدوحة لتغطية فعاليات المونديال، ولم يكن ذلك لإثبات أن هناك تغيّرا على الأرض، لكن لاختبار مدى ما حققته إسرائيل من تأثير في قطر لعدم تكرار النموذج المصري.

القرار بيد السياسيين

◘ فكرة التعويل على الشعوب في إدارة العلاقات مع إسرائيل تراجعت، ولم يعد رفضها يحول دون المزيد من التطبيع

تكمن معضلة التطبيع، مع أو ضد، في القيادة السياسية أكثر من إرادة الشعوب، فالدول المتردّدة تتردد شعوبها أيضا، وهذا هو حال القيادة القطرية التي كشفت تناقضاتها الواضحة في التعامل بين الإسرائيليين والفلسطينيين عمق الفجوة التي تعتمل في صفوف المواطنين، فالدولة التي رفعت مستوى علاقاتها مع الطرفين جعلت إعلامها يقف تارة مؤيدا للفريق الأول وأخرى مع الفريق الثاني، الأمر الذي أنتج حيرة في الوجدان العام ظهرت تجلّياتها في رفض التجاوب مع إحدى المحطات الإسرائيلية.

حظي موقف مذيع المحطة الذي عمّم حديث الممانعة على القطريين باهتمام داخل إسرائيل وخارجها، وقراءات متباينة ممّن تفاعلوا مع ما نشرته وسائل الإعلام أدت إلى ظهور ملف التطبيع على السطح، وكان ربطه من قبل قيادات عربية سابقة بالسلام عنصرا داعما على تحريكه إلى أعلى أو إلى أسفل، بمعرفة الحكومات وليس الشعوب، وكأن هناك زرا سيتم الضغط عليه فيحدث التطبيع، والعكس صحيح.

تؤكد معطيات كثيرة أن التطبيع له علاقة قوية بالمواقف الرسمية، وهي الزاوية التي يمكن أن تحظى بالتركيز الفترة المقبلة وتجعلها جزءا من صفقات السلام مع أيّ دولة عربية، لأن هذه الورقة سوف تظل سببا لتفخيخ الكثير من الاتفاقيات السلام، وقد تكبح التحركات الساعية إلى تطوير علاقة الحكومات بذريعة أن الشعوب لها موقف مغاير.

إذا كانت بعض الدول الخليجية التي وقّعت اتفاقيات سلام مع إسرائيل لم تدخل فضاء التطبيع رسميا حتى الآن، فإنها سوف تكون معرضة إلى ضغوط قد تجعله عنصرا أساسيا في عمليات التعاون والتنسيق بين الجانبين لاحقا، لأن ما يتمخّض عن الرفض الشعبي، ولو كان صوريا أو خاضعا لتوجيهات رسمية ضمنية ربما يكون مؤثرا على أهداف إسرائيل السياسية، حيث يؤكد على أنها لا تزال منبوذة شعبيا.

يمكن أن تستثمر القيادات العربية في هذا البعد للحد من الخسائر التي تواجهها القضية الفلسطينية، وتعيد تنشيط صيغة السلام مقابل التطبيع، وهو ما يحتاج إلى تعاون بين الفصائل الفلسطينية والحكومات العربية، فالحصول على مقابل محدود للتطبيع أفضل من الوصول إليه بلا مقابل أصلا، فالتطورات التي تشهدها المنطقة يمكن أن تفرض السلام من دون ربطه بالتطبيع بعد أن تحوّل إلى ورقة دعائية، خاصة أن تراكمات التدهور العربي أصابت الثوابت التقليدية في الدفاع عن هذه القضية بالعطب.

4