مزارعون عراقيون يختارون الانتحار في مواجهة جفاف دمر حياتهم

المشخاب (العراق) - أدى أسوأ جفاف شهده عبدالحميد الإبراهيمي على الإطلاق إلى موت كل شيء من حوله تقريبًا: مزرعة الأرز التي يملكها ومعظم ماشيته ودجاجه. وسرّعت الكارثة في الهجرة الجماعية من المناطق الريفية مما يعرّض استقرار العراق في المستقبل للخطر.
تشبه مزرعته الآن الصحراء، ولم تعد واحة خضراء كما كانت قبل عام. لم يزرع بذرة واحدة من الأرز لشحّ الماء اللازم لري حقوله. وكان يعتمد على الأرز لإطعام أسرته المكونة من أربعة أفراد وتوفير فائض يمكن له بيعه.
لم يعد كلب الحراسة ينبح فهو عطشان وجائع. يميل رأسه بالكاد في اتجاه الغرباء الذين يعبرون أمامه، ويبدو غافلا عما يدور من حوله.
وقال الإبراهيمي البالغ من العمر 45 عاما لمؤسسة تومسون رويترز وهو يقف بجوار حقوله البنية في بلدة المشخاب الواقعة على بعد 200 كيلومتر جنوبي العاصمة بغداد “ما يحدث لنا لم يحدث من قبل. لقد تدمرنا تماما. انتهت حياتنا هذا العام مرة واحدة”.
ويشير التخلي عن الحقول الجافة وحالات الانتحار بين المزارعين المعدمين والاحتجاجات العنيفة التي يقودها الشباب العاطلون عن العمل إلى بلد يكافح من أجل التعافي من عقود من الحرب في مواجهة أزمة مناخية محتدمة.
وقال المستشار السياسي في منتدى استشراف الشرق الأوسط هادي فتح الله إن العراق في خضم ثلاث سنوات من الجفاف دمر قطاعه الزراعي وحرم العديد من المزارعين من مصدر دخلهم الوحيد.واعتبرها وصفة للاضطراب الاجتماعي، حيث يتخلى الناس عن مزارعهم بحثًا عن عمل في المناطق الحضرية.
وأضاف فتح الله “لديك عدد مخيف من الشباب الذين لا يستطيعون الهجرة ولا يستطيعون فعل أي شيء. سينفجرون في النهاية لأنه لا يمكنهم سوى الاحتجاج. ليس لديهم أي شيء آخر يمكنهم فعله وهذا سيزيد الكثير من الضغط على الاستقرار والجريمة”.
وقُتل أكثر من 560 شخص خلال أشهر من الاحتجاجات في عام 2019 ضد الفساد ونقص الوظائف، مما أطاح بالحكومة.
ويعاني العراق من أحد أعلى معدلات بطالة الشباب في المنطقة، حيث يعاني أكثر من ربع العراقيين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و30 عامًا من البطالة، وفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة.
وقد تصاعدت حالة الإحباط مع أزمة سياسية استمرت لمدة سنة تركت العراق دون حكومة عاملة حتى 27 أكتوبر.
وعلى الرغم من أن أسعار الخام المرتفعة قد عززت عائدات النفط، إلا أن الحكومة لا تملك الميزانية اللازمة للتعامل مع البنية التحتية المتهالكة للمياه وانقطاع الكهرباء والخدمات العامة المتردية والفقر.
وعلى حافة حقل الأرز الذي يملكه، ضرب الإبراهيمي الأرض الجافة بمحراثه ليوضح كيف يبسَتْ بفعل أشعة الشمس الحارقة، فبالكاد تحركت تحت وقع ضرباته.
وقال بينما ارتفع صوته لعدم قدرته على تمالك مشاعره “لم يكن لدينا ألف دينار عراقي حتى نشتري لأبنائنا دفاتر مدرسية. نحن ننهار نفسيا”.
ويبقى العراق شديد التأثر بتأثيرات تغير المناخ. وغالبًا ما تصل الحرارة إلى 50 درجة مئوية، بينما تتضاءل معدّلات هطول الأمطار مع مستويات المياه في النهرين الرئيسيين اللذين يرويان معظم أراضي البلاد الزراعية.
ويتزايد الطلب على المياه بينما تتضاءل الإمدادات. وتعقّد الوضع بسبب السدود التي أقامتها تركيا وإيران، مما أجبر الآلاف من العراقيين على الهجرة بحثًا عن المياه.
ويعتبر نهرا دجلة والفرات بمثابة العمود الفقري المزدوج الذي يمر عبر العراق، حيث تنقل روافدهما المياه إلى السهول الخصبة التي ولّدت بعض الإمبراطوريات البشرية المبكرة.
وقال المدير العام للمركز الوطني لإدارة الموارد المائية حاتم حميد حسين إن مستويات المياه في هذه المناطق آخذة في الانخفاض، كما أن الجفاف الذي طال أمده أجبر السلطات على اتخاذ قرارات صعبة.
وأدى التقنين الحكومي لإمدادات المياه المحدودة إلى خلق لعبة صفرية: يعني أن إمداد منطقة ما بالمياه يؤدي إلى حرمان منطقة أخرى.
وقال حسين “بلغت نسبة المياه في السدود هذا العام 11 في المئة فقط مما كان لدينا في 2019″، مضيفًا أن الحكومة خفضت المياه المخصصة للزراعة على المستوى الوطني هذا العام إلى النصف، مما يعني أن مساحة الأراضي المزروعة انخفضت بنفس القدر.
وتابع “إذا لم يكن الشتاء ممطرا، فسيكون من المستحيل حتى ضمان مياه الشرب في الصيف المقبل”.
العراق يبقى شديد التأثر بتأثيرات تغير المناخ وتتضاءل معدّلات هطول الأمطار مع مستويات المياه في النهرين الرئيسيين اللذين يرويان معظم أراضي البلاد الزراعية
لقد خصّص ما يكفي من المياه للمزارعين الذين يزرعون أرز العنبر العراقي الشهير في المشخاب لري 5 في المئة من مزارعهم هذا العام. ولم تتسنّ الزراعة في المساحات الباقية.
ويعتبر الأرز طويل الحبة الذي اشتق اسمه من الرائحة الزكية التي تنبعث منه مصدر فخر كبير وأساسا لأطباق وطنية مثل قوزي لحم الضأن. ويستغرق نمو حقول الأرز التي تغمرها المياه ستة أشهر.
وقال جار الإبراهيمي، حيدر سرحان البالغ من العمر 45 عاماً، وهو يقف إلى جانب حقله الجاف “كنا نزرع في المشخاب أفضل أرز عنبر. ولا يمكننا الآن فعل أي شيء. يغادر الجميع بسبب الجوع”. وعدّد جيرانه وأصدقاءه الذين اقترضوا أموالا أو باعوا ممتلكاتهم للهجرة إلى العاصمة بحثا عن عمل.
وتابع “ماذا أفعل؟ لقد وضعت مصيري في يد الله. لا يمكنني الذهاب إلى بغداد”، مضيفًا أن النزوح سيكون صعبا ومكلفا للغاية بالنسبة إليه.
وبعد عقود من الحرب والتمرد والنزوح، يقول برنامج الأغذية العالمي إن 2.4 مليون من سكان العراق البالغ عددهم 39 مليون نسمة في حاجة ماسة إلى الغذاء ومساعدات سبل العيش.
ولم يستسلم عقيل عبدالله الفتلاوي دون قتال. وساعد هذا العام في تنظيم سلسلة من المظاهرات للمزارعين في مكاتب سلطة المياه المحلية للمطالبة بنسب أكبر من مخصصات المياه.
وقال الرجل البالغ من العمر 48 عامًا “نحن في طريقنا إلى مجاعة هنا”، مؤكدا أن عددا من أصدقائه لا يستطيعون إطعام أسرهم.
وقال إن جميع العمالة المحلية تقريبًا مرتبطة بالزراعة، واختفت الوظائف مع زوالها.
وتبقى الزراعة ثاني أكبر مساهم في الناتج المحلي الإجمالي للعراق بعد النفط، حيث توظف ما يقرب من 20 في المئة من القوة العاملة، وفقًا لبرنامج الغذاء العالمي.
وتقلص القطاع بنسبة 18 في المئة خلال العام الماضي بسبب الجفاف وارتفاع كلفة المدخلات، حسب البنك الدولي.
ودعا برنامج الأغذية العالمي إلى المزيد من البحث والاستثمار لمساعدة المزارعين على التعامل مع الظروف المناخية المعاكسة بدلاً من التخلي عن أراضيهم، حيث لا يؤدي ذلك سوى إلى زيادة تكاليف الغذاء المحلية وشح القوت. ولكن الأمور ليست سهلة.
وقال عبدالخالق محمد الميالي البالغ من العمر 59 عاما، وهو مسؤول محلي ينسق بين المشخاب والحكومة المركزية، بينما كان جالسا خلف مكتب خشبي سميك، “ليس لدي حلول”.
وذكر أن المزارعين يأتون كل يوم إلى مكتبه للشكوى من نفوق حيواناتهم أو فقدان محاصيلهم.
وتابع “تظهر الكثير من المشاكل النفسية والعقلية في المجتمع”، واصفًا كيف أجبر الجفاف الناس على هجر منازلهم والانتقال إلى الضواحي.
وقال إن 10 مزارعين انتحروا العام الماضي في منطقة المشخاب التي يبلغ عدد سكانها 180 ألف نسمة، بعد أن دمّرتهم الديون.
وتعهد الميالي بإثارة مشاغل المزارعين على السلطة في العاصمة. لكن الفتلاوي كان متشككا. وقال “إنه سياسي يتحدث بشعارات ولا يفعل شيئا”.
وبالعودة إلى المزرعة، يشعر عبدالحسين قصير بالقلق من أن الوقت ينفد. وأنه لم يزرع شيئا هذا العام وباع نصف ماشيته لأنه لم يستطع تحمل أسعار العلف الباهظة.
وإذا لم يزرع في الموسم المقبل، فقد يخسر مزرعته نهائيا بسبب الملوحة، وهي مشكلة شائعة في الأراضي القاحلة حيث يكون هطول الأمطار منخفضًا للغاية بحيث لا يمكن أن تتسرب عبر التربة.
وقال الرجل البالغ من العمر 50 عامًا وهو أب لأربعة أطفال بينما كان يعاين حقول الأرز الميتة “ستنتهي هذه الأرض مع مرور الوقت. لو وُجد الماء لوُجدت الحياة، ولكن لا حياة من دون ماء”.