تحركات موسكو تدفع واشنطن إلى عدم التفريط في القاهرة

الإدارة الأميركية تتجنب تكرار خطئها مع السعودية لمنع تمرد مصر.
الأحد 2022/11/13
بايدن يخيبّ آمال معارضي السيسي

الرئيس الأميركي جو بايدن خيب آمال كل من راهن على أن زيارته إلى القاهرة ستكون فرصة للضغط على الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي. العكس هو الذي حصل، حيث أهمل بايدن موضوع حقوق الإنسان، وتحدث فيه عرضا وبشكل عام، في خطوة عُدت انتصارا للسيسي.

القاهرة - تحولت زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن لحضور مؤتمر المناخ في شرم الشيخ الجمعة إلى أداة لدعم الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بعد أن توقعت دوائر سياسية أن تحمل الزيارة الكثير من معاني الضغط في ملف حقوق الإنسان، والذي تصاعد الاهتمام به على هامش قمة المناخ.

وخالف بايدن كل التوقعات السلبية وتبنى خطابا إيجابيا حوى رسالة تؤكد الأهمية الإستراتيجية للحفاظ على العلاقات بين بلاده ومصر، وجاء تطرقه إلى ملف حقوق الإنسان عرضيا وعلى استحياء، بصورة توحي بحل إشكالياته بالحوار والتفاهم وليس بممارسة الضغوط، في إشارة تؤكد تراجع استخدام هذه الورقة في الفترة المقبلة.

وتجنبت الإدارة الأميركية تكرار الطريقة الغليظة التي استخدمتها مع ولي العهد ورئيس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان، وأدت حصيلتها إلى نتائج لا تصب في صالح واشنطن، حيث خطت الرياض خطوات أوحت بالانحياز إلى معسكر روسيا على حساب الولايات المتحدة.

وابتعد بايدن عن هذا السيناريو مع السيسي خوفا من أن تتأثر بلاده بما يمكن أن يقدم عليه الرئيس المصري من تمرد صريح يصب في صالح معسكر روسيا، والتخلي عن حياد حاول أن تظهر به السياسة الخارجية في التعامل مع الأزمة الأوكرانية.

بايدن خالف كل التوقعات السلبية وتبنى خطابا إيجابيا حوى رسالة تؤكد الأهمية الإستراتيجية للحفاظ على العلاقات بين بلاده ومصر

وبالغ بايدن في الإشادة بدور القاهرة في عديد من القضايا الإقليمية، واستخدم عبارة محببة للسيسي (أم الدنيا)، وهو لقب اشتهرت به مصر في الأدبيات الشعبية وينطوي على إشارة إلى عمق حضارتها، وذلك للتدليل على حرص واشنطن على عدم التفريط في العلاقة التاريخية مع القاهرة وطمأنة قيادتها أنها سوف تسير بطريقة جيدة.

وبعد أن فرغت الإدارة الأميركية الديمقراطية من انتخابات الكونغرس من دون أن تتلقى هزيمة ساحقة على يد الجمهوريين، يتجه الرئيس إلى تصويب الأخطاء على صعيد السياسة الخارجية، والتي قادت إلى اهتزاز تحالفات واشنطن في مناطق مختلفة، تمكنت بموجبها روسيا من كسب نفوذ أمني وسياسي يمثل تهديدا لمصالح الولايات المتحدة على المدى البعيد.

ووقفت مصر في منتصف الطريق في مناسبات عديدة طرحتها الحرب الروسية في أوكرانيا وما أفرزته من استقطاب دولي حاد، وصنفت أحيانا على أنها أقرب إلى معسكر موسكو من معسكر واشنطن، على الرغم من الخطوات المتوازنة التي اتبعتها لتجنب احتسابها على حساب أي منهما.

وصارت المعادلة بالنسبة إلى كثير من التقديرات الغربية، من لم يقف في صف أوكرانيا فهو مع روسيا، هكذا بدا وصف مصر ضمنيا، ما يعني أن وقوع ضغوط على القاهرة قد يؤدي إلى تحولها صراحة إلى تأييد موسكو، ولذلك بدأ يختفي ملف الحريات وحقوق الإنسان من الخطاب الأميركي مع مصر، أو على الأقل لا يحتل أولوية كبيرة أو يصبح العنصر الظاهر في إدارة العلاقات السياسية بين البلدين.

وأقدم الكونغرس على خصم جزء (225 مليون دولار) من المساعدات المقدمة لمصر الأسابيع الماضية بسبب اعتراضه على سجلها الحقوقي، وهو ما اعتبرته القاهرة رسالة سلبية يمكن أن تتطور وتشهد تصعيدا في ملف بات مزعجا لها.

واشنطن تطلب عدم انحياز القاهرة لموسكو، مقابل أن تبتعد الولايات المتحدة عن استخدام الملف الحقوقي بمصر وتسهم في مساعدتها اقتصاديا

وأكدت زيارة بايدن إلى شرم الشيخ وضع هذا الملف في الخلفية السياسية لإدارة العلاقات مع مصر والاستدارة نحو الاهتمام بالقضايا ذات الأبعاد الإستراتيجية في هذه المرحلة، والتي تريد واشنطن أن تديرها بشكل يمنحها فرصة لتقليل الخسائر التي تكبدتها في منطقة الشرق الأوسط في مواجهة موسكو تمهيدا لتحقيق تفوق عليها.

ويطرح التمسك الأميركي بمصر وعدم التفريط فيها جملة من الأسئلة بخصوص تصورات الفترة القادمة حيال الآلية التي سوف تتم بها إدارة العلاقات والوسائل الحمائية التي تمنع انزلاقها إلى فخ التوتر أو الارتباك، والكيفية التي سوف تتعامل بها مصر مع روسيا، حيث تشعر أنها لا تزال رديفا للولايات المتحدة لدى القاهرة.

ويصعب الحديث عن ضمانات محددة يقدمها كل طرف للآخر، لكن يكفي أن هناك مصالح مشتركة عميقة بينهما لم تعد قاصرة على البعد العسكري الذي ظل صامدا وسط العواصف السياسية التي هبت على البلدين السنوات الماضية ويمثل ركيزة مهمة لإنقاذ الموقف عندما يحدث تدهور أو تراجع، فواشنطن تعيد صياغة منظومتها لتمتين علاقاتها مع قوى إقليمية ولا تريد إعادة إنتاج ما حدث من اهتزاز مع السعودية.

كما أن الولايات المتحدة التي تتحكم في كثير من مفاتيح صندوق النقد الدولي الذي أسرفت مصر في الاقتراض منه تستطيع أن توفر لها غطاء لمزيد من القروض والعمل على جدولتها، مقابل أن لا تخرج القاهرة عن الخط الأميركي في القضايا الإقليمية الحيوية لأن الخروج يؤدي إلى متاعب كبيرة لمصر من الباب الاقتصادي.

ويبدو أن الجانبين توصلا إلى صيغة للتفاهم لم يتم الإعلان عنها، غير أن التسريبات والمعطيات والتكهنات المتوافرة تشير إلى التوصل إلى حل وسط قوامه عدم تبني كل طرف سياسات يمكن أن تزعج الآخر، والابتعاد عن توظيف ما يملكه من أوراق لمضايقته عمدا بما يفضي إلى خلل في الحسابات التي يقيمها داخليا وخارجيا.

الزيارة تحولت إلى أداة دعم للرئيس المصري بعد أن توقعت دوائر سياسية أن تحمل الزيارة الكثير من معاني الضغط
الزيارة تحولت إلى أداة دعم للرئيس المصري بعد أن توقعت دوائر سياسية أن تحمل الزيارة الكثير من معاني الضغط

باختصار، تطلب واشنطن عدم انحياز القاهرة لموسكو، مقابل أن تبتعد الولايات المتحدة عن استخدام الملف الحقوقي بمصر وتسهم في مساعدتها اقتصاديا من خلال حث صناديق التمويل الدولية على تقديم المعونات اللازمة.

وتظل الهواجس المصرية في التقلبات الأميركية عنصرا مهما في تحديد شكل علاقتها مع روسيا التي تشعر بعقدة أنها احتياطي إستراتيجي أو بديل لواشنطن، فعندما يظهر توتر بين مصر والولايات المتحدة ترفع القاهرة ورقة موسكو، والعكس صحيح.

وارتهنت علاقات مصر مع روسيا خلال نصف القرن الماضي بمدى التوتر أو الانسجام مع الولايات المتحدة، ما أدى إلى حذر كبير في توجهات موسكو نحو القاهرة، والشعور بقلق من حدوث تغير في أي لحظة إذا شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة ومصر تطورات لافتة.

وعلى ضوء وقائع وتفاعلات مؤتمر شرم الشيخ، من المتوقع أن يظهر تحسن كبير بين القاهرة وواشنطن، ما ينعكس سلبا على موسكو وفقا للمعادلة التقليدية المختزلة في العقل الروسي، لكن السؤال المطروح الآن، إلى أي مدى تثق مصر في الوعود الأميركية، وهل ما توصلت إليه من تفاهمات يكفي للابتعاد قليلا أو كثيرا عن موسكو؟

ويميل المنهج المصري العملي إلى عدم التعويل على قوة واحدة، وظهرت تجليات هذا المنحى كثيرا في الخطاب الرسمي ودعم تعدد العلاقات الدولية، شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، والاستفادة من دروس التاريخ التي تؤكد خطأ الرهان على وضع كل البيض المصري في سلة واحدة، سواء أكانت السلة أميركية أو روسية أو صينية، وهكذا.

وتعد النتيجة التي وصلت إليها القاهرة وواشنطن الآن، وقوامها التهدئة والحفاظ على القواسم المشتركة، مرضية إلى حد بعيد لمنع حدوث تغير في التوجهات المصرية التي تعتبر الولايات المتحدة حليفا إستراتيجيا، وعدم التمادي في الانحياز لموسكو والقبول بما يوصف بالحياد الإيجابي في الأزمة الأوكرانية.

4