مشكلة الديمقراطية مع الكويت

حسابيا على الأقل أثبتت الديمقراطية في الكويت أنها مشروع فاشل، حتى ولو كانت من وجهة نظر الأسرة الحاكمة هي السبيل الوحيد الصحيح وأنه لا سبيل سواه.
الخميس 2022/10/27
دولة تحت إدارة نزيهة وصارمة

لا تعاني الكويت مشكلة مع الديمقراطية. الشيخ صباح بن جابر (الأول) لم يتول الإمارة في العام 1752 عنوة. تولاها بالاختيار الشعبي له، وظلت أسرته تحظى بالولاء العام إلى اليوم، بسبب ما اتسم به معظم حكامها بالوسطية والاعتدال والحرص على ترضية الجميع. وهو أمر ما كان للكويت أن تبقى كيانا مستقرا من دونه، بينما هي تعيش في زاوية بين ثلاث قوى إقليمية كبرى: السعودية والعراق وإيران، لا تخفي بعضها أطماعا صريحة فيها.

عندما حصلت الكويت على استقلالها في 19 يونيو 1961، في عهد الشيخ أحمد الجابر الصباح، كان من بين أول ما فكر فيه هو أن تكون الكويت دولة عصرية وديمقراطية، وأراد لهذه الديمقراطية أن تتجسد في تشكيل “مجلس للأمة” عن طريق الانتخاب المباشر، أيام كانت الانتخابات الحرة المباشرة مجرد فنتازيا بالنسبة إلى الدول العربية الأخرى.

لم يكن تعداد “الأمة” الكويتية في ذلك الوقت يتجاوز 321 ألف نسمة، حسب إحصاء العام 1961، على مساحة تبلغ نحو 17 ألف كيلومتر مربع، إلا أن أحمد الجابر الصباح أراد لها أن تكون “أمة”، وليس مجرد شعب لدولة. أي أن تكون لها روابط وموازين من نفسها فتكون الدولة على مقاس الأمة، لا العكس الذي ظل سائدا في الأرجاء العربية الأخرى، حيث أصبح الشعب على مقاس الدولة. وهو أمر شديد الوضوح في دول مثل العراق وسوريا والأردن ولبنان، وغيرها.

◘ "الأمة" في الكويت، أو عشائرها، وعوائلها المتنفذة، ظلت تتنازع، وظل الأمر ينعكس على حكوماتها فعجزت عن أن تكون مستقرة

ولكن”الأمة” الكويتية كانت مقسمة على حزمة عشائر تشمل، حسب تسلسل الغلبة السكانية: مطير، والعوازم، والعجـمان، والرّشايدة، وعـنزة، وعـتيبة، وشمّر، والظّـفير، وقحطـان، وبني غـانم، والدّواسر، وعدوان، وبنو خـالد، وحرب، وسبيع، والسهول، وبنو تميم، والفضول.

الديمقراطية هي التي ظلت تعاني من مشكلة مع هذه العشائر، لأنها أبت أن تكون إلا عشائر، تتنافس فيما بينها على السلطة والمغانم وكانت الانتخابات بالنسبة إلى عدد منها مناسبة لإملاء النفوذ والإرادة، ليس على باقي العشائر فحسب، وإنما على مؤسسات الدولة ومراكزها أيضا.

حسابيا على الأقل، أثبتت الديمقراطية في الكويت أنها مشروع فاشل. حتى ولو كانت، من وجهة نظر الأسرة الحاكمة هي السبيل الوحيد الصحيح، وأنه لا سبيل سواه.

دستوريا، فإن العمر الافتراضي لمجلس الأمة يجب أن يكون أربع سنوات، ولكن عمليا فقد عرفت الكويت منذ العام 1963 حتى اليوم 19 مجلس أمة منتخبا، أو ما يعادل 3 سنوات لكل مجلس. وحيث أن النزاعات غالبا ما كانت تنصب على الحكومة ووزاراتها، ففي غضون الستين عاما الماضية، أي منذ أول حكومة لما بعد الاستقلال، فقد عرفت الكويت أربعين حكومة، أي ما يعادل نحو 1.5 سنة لكل حكومة. حتى أصبح من الجائز التساؤل: مَنْ ذا الذي يحتاج إلى زعزعة وقلاقل إذا كان لديه “استقرار” كهذا.

◘ الشيخ أحمد النواف الصباح، وريث مؤهل. ويعتمد حقه في الميراث، على نجاحه في بناء إدارة حكومية تتسم بالكفاءة والنزاهة والشفافية
◘ الشيخ أحمد النواف الصباح، وريث مؤهل. ويعتمد حقه في الميراث، على نجاحه في بناء إدارة حكومية تتسم بالكفاءة والنزاهة والشفافية

ولم يكن من العجيب أبدا أن تواجه حكومة الشيخ أحمد النواف الصباح أزمة مع “مجلس الأمة” منذ يومها الأول، فتعثرت وعُدّلت. بينما عاد “مجلس الأمة” ليعقد اجتماعا بدعوة من نفسه، من دون مشاركة الحكومة التي يُعد أعضاؤها جزءا طبيعيا من المجلس، وذلك على سبيل التحدي المسبق.

صحيح أن الديمقراطية كانت خيارا تمليه الطبيعة التعددية العشائرية للمجتمع الكويتي، لتكون بمثابة حل. لكنها أثبتت، على طول الخط، أنها أزمة. وبدلا من أن تكون الديمقراطية منارة لباقي دول المنطقة، فإن ما أحدثته من اضطرابات وتجاذبات وانعدام استقرار، دفع دول المنطقة إلى الابتعاد عن هذا الخيار.

لا مفر من الاعتراف، وهذه مفارقة، بأن الطرفين (الكويت، وباقي دول المنطقة) على حق. الطرف الأول، لأنه لا يملك خيارا أفضل حيال الغلبة السكانية للعشائر الخمس الأولى، حسب التسلسل السابق. والطرف الثاني، لأنه نجح في إرساء أنظمة مستقرة لبناء دول حديثة تأخذ التنوع الاجتماعي بالاعتبار إلا أنها تضعه ثانيا حيال المصالح العمومية التي تمثلها الدولة.

المسافة بين “أمة تصنع دولة” و”دولة تصنع أمة” شاسعة للغاية، وتمثل رؤيتين مختلفتين جذريا للحكم.

“الأمة” في الكويت، أو عشائرها، وعوائلها المتنفذة، ظلت تتنازع، وظل الأمر ينعكس على حكوماتها فعجزت عن أن تكون مستقرة. فهي لا تعيش عاما أو اثنين حتى تغرق في مواجهات ونزاعات تحت ستائر “الاستجوابات” البرلمانية، والاتهامات بالفساد، والمناوشات السياسية عن أخطاء وتجاوزات لا حصر لها.

كيف يمكن، في هذه البيئة، التخلص من الديمقراطية؟

هناك سبيلان، يمكن الأخذ بهما معا.

الأول، يفيد بأنه يمكن التخلص من الديمقراطية بالمزيد منها. أي أن لا تقتصر على مجلس منتخب واحد، وذلك بأن ينشأ مجلس مواز، على غرار “مجلس شيوخ”، ومجالس محافظات، وإدارات محلية منتخبة، وغيرها.

تفتيت الديمقراطية، يساعد في ضمان استقرارها عندما يتاح لكل صوت أن يُسمع له صدى. وهو ما تفعله، بالمناسبة، كل الدول الديمقراطية الأخرى، لكي تمتص، وتُنفّس كل عوامل الاعتراض والتنافس، وتترك حيزا مناسبا لتعدد المصالح والأدوار بين المتنافسين.

والثاني، هو أن تكون الحكومة، بما أنها تشكيل فوقي يتم اختياره من القمة، أكثر نزاهة وصرامة وشفافية مما كان حالها سابقا، وذلك لكي لا تترك الفرصة للزعزعة والقلاقل أن تتحولا إلى صناعة ثابتة، تهدد بإطاحة الحكومة كلما ضاقت عليها المصالح الخاصة.

◘ صحيح أن الديمقراطية كانت خيارا تمليه الطبيعة التعددية العشائرية للمجتمع الكويتي، لتكون بمثابة حل. لكنها أثبتت، على طول الخط، أنها أزمة

والسؤال البديهي هنا: لماذا يخشى الوزير الاستجواب إذا لم يكن فاسدا؟ لماذا الفساد أصلا؟ ما العيب في أن تكون هناك حكومة تتبع برنامجها كما تخطط له؟ ما الضرر في أن تكون سلطة رئيس الوزراء صارمة مع وزرائه ووكلائهم ومدرائهم العامين بما لا يُبقي مجالا للفساد أو المحسوبيات أو أي مظهر من مظاهر الخلل، أو سوء الإدارة؟

يرأس الحكومة الكويتية اليوم رجل أكبر من أن تقع وزارته ضحية لأي اتهامات أصلا. الشيخ أحمد النواف الصباح، وريث مؤهل. ويعتمد حقه في الميراث، على نجاحه في بناء إدارة حكومية تتسم بالكفاءة والنزاهة والشفافية، وكذلك على قدرته على الضرب بيد من حديد على كل مظهر من مظاهر الخلل. يُصغي إلى مجلس الأمة، ويدقق، ويكاشف، فيرتفع بسلطته إلى مقام يعلو على النقص والتقصير والفشل.

الدولة، تحت إدارة نزيهة وصارمة، سوف تعود، عندئذ، لتملك القدرة على بناء “الأمة”.

اختيارُ أحمد النواف الصباح لرئاسة الحكومة تحدٍ خطير، لا يأخذ به مَنْ يريد أن يحكم بعين مفتوحة وأخرى مغمضة. وهو تحدٍ إنما ينظر إليه أحمد الجابر الصباح، من بعيد، على أمل في النجاح وخشية من الفشل. لأن الفشل، ساعتئذ، كارثة تمضي بصداها إلى صباح بن جابر الأول.

9