الملحمة السرية للمهاجرين الجزائريين: مأساة صامتة

يسعى الجزائريون لمغادرة بلادهم من خلال الهجرة غير النظامية وذلك بسبب تدهور الوضع الاقتصادي والسياسي وفقدان الأمل، فيما ظهرت السلطات عاجزة عن مواجهة الظاهرة رغم التركيز فقط على البعد الأمني بتشديد الإجراءات ضد المهربين.
الجزائر - تمثل الهجرة غير النظامية معضلة حقيقية في الجزائر، حيث يرى الشباب هناك أن الوضع الاقتصادي والسياسي بات قاتما وأن الحل في المغادرة بأي طريقة للبحث عن مستقبل أفضل رغم المخاطر.
وتوفي طفلان عندما انقلب قارب يقلهما ومهاجرين سريين آخرين من الجزائر إلى جنوب أوروبا في الثاني عشر أكتوبر. وقد أفادت وسائل الإعلام الإسبانية قبل شهر من ذلك عن وصول جماعي لمهاجرين آخرين، وذكرت أن أكثر من 900 شخص لا يحملون وثائق يحاولون الوصول إلى الساحل الإسباني على متن عشرات من القوارب الصغيرة.
ويقول الكاتب زين العابدين غبولي وهو محلل سياسي وباحث في الدراسات العليا بجامعة غلاسكو في تقرير لمعهد الشرق الأوسط، وهو منظمة تعليمية مستقلة غير حزبية وغير هادفة للربح، إن الأرقام سجلت مستويات قياسية يوميا، لكن الموجة المتزايدة من الجزائريين الذين يحاولون خوض هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر ليست تطورا جديدا.
وفي عام 2021 وحده سجّلت السلطات المحلية الإسبانية 10 آلاف دخول غير نظامي من الجزائر، بزيادة قدرها 20 في المئة عن سنة 2020.
ويؤكد الكاتب أنه غالبا ما تؤدي هذه الرحلات العابرة للبحر من شمال أفريقيا إلى وقوع الإصابات وحتى الموت، حيث سُجّلت 309 حالات وفاة على الأقل في عام 2021، ويواجه أولئك الذين ينجحون في عبور البحر المتوسط صدمات شديدة.
الهجرة الجماعية تجسد تذكيرا بالوضع السياسي والاقتصادي الكئيب في الجزائر بعد ثلاث سنوات من الحراك الشعبي
وتجسّد الهجرة الجماعية وفق الكاتب تذكيرا بالوضع السياسي والاقتصادي الكئيب الذي تعيشه الجزائر بعد ثلاث سنوات من انطلاق حركة الاحتجاج في 2019 التي بعثت الأمل في إحداث تغيير جوهري.
ويقول الكاتب إنه من المؤكد أن الهجرة غير الشرعية تبقى قضية عميقة الجذور ومعقدة في جميع أنحاء بلدان شمال أفريقيا، حيث تعد المظالم الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، بما في ذلك البطالة والفساد، الدوافع الأساسية لسعي المهاجرين نحو مستقبل أفضل في الخارج.
ويستطرد الكاتب أنه “بعد الزيادة السنوية في أعداد الأفراد الذين يحاولون المشاركة في الرحلة الشاقة نحو أوروبا، لاحظ المراقبون المزيد من التغييرات في ديناميكيات الهجرة السرية، حيث بدأ المزيد من النساء والقصّر عبور البحر المتوسط، وهم مدفوعون بعوامل أخرى تتجاوز البحث عن الإغاثة الاجتماعية والاقتصادية”.
وتبقى استجابة السلطات الجزائرية، وفق الكاتب، حتى الآن مثيرة للجدل وغير كافية وغير قادرة على معالجة مشكلة يمكن أن تصبح نقطة خلاف أكبر بين البلاد وشركائها في جنوب القارة الأوروبية.
وطالب الكاتب بدراسة هذا التحدي الأمني بطريقة أكثر شمولية، مع الأخذ في الاعتبار العوامل الاجتماعية والسياسية وأوجه القصور في السياسة التي تدفع المهاجرين إلى مغادرة أوطانهم في المقام الأول.
العوامل المسببة

وانتفض الملايين من الجزائريين في 2019 للمطالبة بتغيير سياسي جذري وسلمي، مما أدى في النهاية إلى استقالة الرئيس السابق الراحل عبدالعزيز بوتفليقة واستبدال “حكومته الفاسدة”.
ويقول الكاتب إن الشتات لعب دورا رئيسيا في الاحتجاجات الشعبية التي أصبحت تُعرف باسم الحراك، حتى أن البعض اعتزموا العودة إلى أرض الوطن بعد سنوات من المنفى.
وأثار ذلك بحسب الكاتب الآمال في أن هجرة الأدمغة الجزائرية طويلة الأمد التي كلفت البلاد 50 في المئة من قوتها العاملة المؤهلة على مدار الأعوام الأربعين الماضية قد تعكس مسارها أخيرا.
ويستطرد بأن النخبة الحاكمة في الجزائر بددت هذه الآمال. وغيرت واجهتها المدنية بدلا من إجراء إصلاحات حقيقية ورعت مجموعات عملاء جديدة ونفذت قمعا انتقائيا. كما أصبح البلد اليوم في حالة ركود، مضيفا أن “الوعود بجزائر جديدة لا تعكس حياة السكان اليومية ونضالاتهم”.
ويرى الكاتب أن خيبة الأمل غذت سنوات من الهجرة المتزايدة بين الشباب الجزائريين الذين لم يعودوا واثقين بروايات السلطات وأجنداتها وهم يرون اليوم في مغادرة البلاد فرصتهم الوحيدة.
موجة الهجرة الأخيرة في الجزائر قد تعكس الضغوط الاجتماعية على النساء واضطهادهن
وأدى الفشل الجزئي الذي شهده الحراك الجزائري وفق الكاتب إلى تأسيس بيئة قمعية جديدة، حيث “أعادت النخبة الحاكمة إحكام قبضتها على السلطة منذ الاحتجاجات من خلال الضغط على شخصيات ونشطاء المعارضة وسجنهم مما سبّب إحباط الأحزاب السياسية المعارضة”.
ويقول غبولي إن الرئيس عبدالمجيد تبون تعهد في البداية بحماية الحريات الفردية والجماعية، لكن حوالي 300 شخص يقبعون في السجن إلى اليوم بسبب آرائهم السياسية.
ويضيف أن “الجزائر أجلت الزيارة المقررة في سبتمبر 2022 لمقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بحرية التجمع السلمي وتكوين الجمعيات، وهي خطوة أدانتها الجهات الفاعلة المحلية باعتبارها محاولة للتستر على الممارسات الاستبدادية وتجاهل التزامات البلاد الدولية”.
ويبين الكاتب أن رجال الأعمال مثل نبيل ملاح، الذي لفت الانتباه إلى الإمكانات الكبيرة التي يمكن أن تتمتع بها ريادة الأعمال في الجزائر، لم يعفوا من الأحكام العقابية الشديدة التي تفرضها السلطات.
وحطّمت هذه الحملات، وفق الكاتب، كل الآمال في المستقبل بين الجزائريين وشجعت الشباب المتعلمين وعائلاتهم على مغادرة الوطن بحثا عن الكرامة والحرية والفرص.
الشتات لعب دورا رئيسيا في الاحتجاجات الشعبية التي أصبحت تُعرف باسم الحراك، حتى أن البعض اعتزموا العودة إلى أرض الوطن بعد سنوات من المنفى
ويؤكد الكاتب أن موجة الهجرة الأخيرة في الجزائر قد تعكس الضغوط الاجتماعية على النساء واضطهادهن. ويضيف أن الحركات المحلية المحافظة في عهد الرئيس السابق بوتفليقة تمكنت من فرض أيديولوجيتها بشكل أكثر شمولا على الجزائريين، لاسيما في المناطق الريفية والمحرومة.
ويوضح الكاتب أن التبني واسع النطاق للروايات وممارسات المؤسسة الاستبدادية أدى إلى تقويض قدرة الجزائريين على إضفاء الطابع الديمقراطي على مؤسساتهم الوطنية ما خلق بيئة اجتماعية سامة تتميز بالأبوية والتمييز الجنسي العنيف أحيانا.
ويقول الكاتب إن الهجرة غير الشرعية يمكن أن تشكل السبيل الوحيد لهروب أولئك الذين لا تتوافق حياتهم بالضرورة مع الأعراف والتقاليد الاجتماعية الحالية. وتشهد الجزائر تحولا عميقا في الأجيال يؤثر على الأعراف المقبولة عموما، ويتجلى هذا الاتجاه بانتظام في الهجرة الجماعية المستمرة.
ويشير إلى أن هذا الأمر اعترف به ضمنيا في 2018 رئيس الوزراء آنذاك أحمد أويحيى. لكن السلطات لا تزال تقدم إصلاحات مؤقتة فقط، بما في ذلك مجموعة من الترتيبات الأمنية غير الفعالة.
سياسات غير ملائمة

وأعلن وزير العدل الجزائري عبدالرشيد طبي في يونيو 2022 عن خطة الحكومة لتشديد العقوبات ضد شبكات الهجرة غير الشرعية.
وأضاف أنها تشمل تقديم المساعدة النفسية والاجتماعية للشباب من ضحايا هذه الشبكات.
ويؤكد الكاتب أن هذه الأساليب لا تختلف كثيرا عن السياسات المرتجلة السابقة، مثل بناء جدران خرسانية لمنع شبكات التهريب في المدن الساحلية مثل وهران من الوصول إلى الشواطئ واستغلالها في أنشطتها.
ويستنتج الكاتب أن تركيز السلطات على التدابير الأمنية يظهر عدم فهم الدوافع الاجتماعية والسياسية الكامنة. كما يشير التقرير إلى أن الجزائر لم تضع بعد خطة شاملة لمنع هذه الأزمة أو التخفيف من عواقبها وتواصل اللجوء إلى إستراتيجيات قصيرة المدى.
ويضيف الكاتب أن شبكات التهريب ليست محلّ تركيز قوات الأمن الوحيد، حيث جرّم المشرعون الجزائريون الهجرة السرية في 2009. ووفقا للمادة 175 من قانون العقوبات، قد يواجه المهاجرون غير الشرعيين أحكاما بالسجن تصل إلى ستة أشهر وغرامات باهظة.
إعادة المهاجرين غير الشرعيين من إسبانيا توقفت لعدة أشهر حيث علّقت الجزائر معاهدة الصداقة لسنة 2002 بين البلدين في يونيو الماضي
ويضيف “زادت قوات الأمن من اعتراضها لقوارب المهاجرين في مهمات أدت في بعض الأحيان إلى معاملة عنيفة وقمعية. وتنظر الجزائر إلى منطقة البحر المتوسط على أنها جزء لا يتجزأ من مجال أمنها القومي مما يجعلها تتبنى نهجا صارما قد لا يأخذ في الاعتبار الشواغل الإنسانية أو اتجاهات الهجرة وهو أكثر ملاءمة للتعامل مع قضايا مثل المخدرات والاتجار بالبشر”.
ويقول الكاتب إن الجزائر نشرت لذلك موارد عسكرية ومدنية كبيرة لتعزيز السيطرة على حدودها البحرية.
وتراقب القوات المسلحة تدفق المهاجرين غير الشرعيين وأنشطة شبكات الجريمة المنظمة التي تسهّل ذلك.
ويستطرد أن “التعاون الإقليمي في معالجة هذه القضايا لا يقل أهمية عن التعزيزات المحلية”، قائلا “إنه بسبب الخلاف الأخير مع إسبانيا حول الصحراء في مارس 2022، أفادت التقارير بأن الحكومة الجزائرية تبقي التعاون الأمني عند الحد الأدنى”.
ويضيف “توقفت إعادة المهاجرين غير الشرعيين من إسبانيا لعدة أشهر حيث علّقت الجزائر معاهدة الصداقة لسنة 2002 بين البلدين في يونيو الماضي. وقد تؤدي التوترات الدبلوماسية مع مدريد وشركاء أوروبيين آخرين محتملين بشأن هذا الملف إلى تفاقم الوضع وإلى كارثة إنسانية”.
استجابة شاملة
ويشير الكاتب إلى أن الهجرة السرية تتحول ببطء إلى أمر عادي في منطقة البحر المتوسط. حيث ترى الجزائر، بصفتها مركز عبور، بشكل مباشر تورط عصابات الجريمة المنظمة في الهجرة وتأثير النزاعات في البلدان المجاورة.
كما يشمل هذا النزوح الآن وفق الكاتب جميع شرائح المجتمع، بمن في ذلك الأطفال، مما يؤدي بطبيعة الحال إلى زيادة التداعيات والتكلفة البشرية لهذه الطرق. وتتطلب معالجة الهجرة غير النظامية سياسة وطنية شاملة وذكية بالإضافة إلى جهود إقليمية أكثر جرأة.
ويطالب الكاتب بأن تعترف إستراتيجية الجزائر على المستوى المحلي أولا بجذور هذه المأساة الاجتماعية والسياسية، حيث يختار الشباب الجزائريون المغامرة بحياتهم مقابل فرصة في مستقبل أفضل في الخارج بدلا من أخذ وعود الحكومة بالإصلاح على محمل الجد في الداخل.
الهجرة السرية عبر الحدود ستتفاقم إلى حين تحفيز الجزائريين للمساهمة في تنمية بلادهم اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا دون قيود اجتماعية أو خوف من الانتقام المنهجي
ويتابع أن هذه الحقيقة يجب أن تدفع وحدها المسؤولين الجزائريين إلى تغيير مسارهم بشكل كبير بالابتعاد عن نهجهم الحالي الذي يركز على الأمن في التعامل مع الهجرة وبإطلاق حوار وطني من شأنه أن يعتمد على مساهمات جميع الجهات الفاعلة المحلية، وخاصة المجتمع المدني والأوساط الأكاديمية.
ولن تتمكن الحكومة، وفق الكاتب، من حل المشكلة إذا استمرت في مسارها الحالي لأن سياساتها تؤدي إلى نتائج عكسية بالفعل.
ويختتم الكاتب بمطالبة السلطات الجزائرية بأن تنظر في السياق الإقليمي وتتخذ خطوات لتسهيل التعاون الدولي بشأن هذه القضايا المشتركة.
وتتطلب التحديات العابرة للحدود، وفق الكاتب، حلولا متعددة الأطراف، قائلا إنه لا يعتبر إحجام الجزائر عن التعامل بشكل مثمر مع جيرانها الأفارقة والأوروبيين بخلاف البيانات الخطابية نقطة انطلاق واعدة.
ويضيف الكاتب أنه طالما انتشرت التوترات الكبيرة عبر البحر المتوسط، فإن الافتقار إلى الحوار والتعاون سيمكن شبكات الهجرة من النمو بالإضافة إلى تسهيل استغلالها من قبل الجريمة المنظمة.
ويقول إنه كان يُنظر إلى هؤلاء المهاجرين، وخاصة فئة الشباب، على أنهم أعباء في الداخل وتهديدات في الخارج، مضيفا “حان الوقت لتنظر السلطات الجزائرية إليهم بشكل مختلف، باعتبارهم فاعلين مهمين وأساسيين في تشكيل مصيرهم”.
ويؤكد الكاتب أن الهجرة السرية عبر الحدود ستتفاقم إلى حين تحفيز الجزائريين للمساهمة في تنمية بلادهم اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا دون قيود اجتماعية أو خوف من الانتقام المنهجي، داعيا الحكومة إلى اتخاذ الخطوات التصحيحية الأولى.