جنازة حاشدة لأحد شيوخ السلفية تجهض خطط الحكومة المصرية

جنازة كبرى لأحد شيوخ السلفية أربكت الحكومة المصرية وكشفت لها أن محاولات تقييد السلفيين والحد من نفوذهم وتأثيرهم لم تحقق نتائج ذات قيمة. وعلى العكس، فقد قادت الاستهانة الحكومية بحجم الظاهرة إلى وقوفها متأخرا على حقيقة هذا التحدي بعد هذه الجنازة.
توقف الكثيرون أمام مظهر تشييع جثمان الشيخ السلفي أسامة عبدالعظيم في القاهرة الاثنين الماضي، حيث شهدت الجنازة حشودا كبيرة من النادر رؤيتها في مصر حاليا، بعيدا عن الترتيبات والاحتفالات والجنازات التي تتم في أحضان الدولة.
وما جذب الانتباه في المشهد أن الآلاف من مشيعي الرجل حرصوا على ارتداء الجلباب وكأنه مشهد لاستعراض القوة تسبب في أن عددا كبيرا من الطرق المجاورة لمنطقة السيدة عائشة في وسط القاهرة أغلقت بعد توقف حركة المرور فيها، وهو ما يجعل بعض المواطنين يشعرون أن هناك شيئا غريبا يحدث حولهم.
وتلقف رواد مواقع التواصل الاجتماعي الصور والفيديوهات التي تم بثها وتداولها للجنازة وانتشرت على مواقع شخصية وعامة، وبدأ الناس يتساءلون عن أهمية من جرى تشييع جثمانه بهذه الكثافة، وراجت قصص وحكايات وجميعها أكدت أن الشيخ أسامة هو أستاذ أصول الفقه بجامعة الأزهر ويحظى بشعبية جارفة وسط السلفيين.

وانتهى مشهد الجنازة الذي حظي بتعليقات مؤيدة وأخرى ناقمة، فالمؤيدون من شيعته وأتباعه ومريديه، بينما الناقمون من تيارات سياسية رأت في المشهد رسوبا للحكومة المصرية وخطط وزارة الأوقاف في التعامل مع السلفيين، فمشهد واحد أثبت أنهم يمثلون كتلة حرجة ربما تفوق جماعة الإخوان، لأن أجندتهم غير معروفة وقد يظهرون بُعدهم عن السياسة وبغضهم لها لكنهم يقعون في القلب منها.
وحمل مشهد الجنازة العديد من الرسائل المهمة، في مقدمتها أن الإجراءات التي اتبعتها وزارة الأوقاف لتجفيف منابع المتشددين بألوانهم المختلفة، أي المنخرطون في السياسة ومن يزعمون ابتعادهم عنها، لم تأت بنتائج ملموسة حتى الآن.
ويؤكد ظهور الآلاف من المشيعين بزي شبه موحد في أحد شوارع القاهرة خواء الخطط التي وضعتها الحكومة في التعامل مع التيار الإسلامي عموما، أو أن هؤلاء أقوى من خططها، أو لا تريد تقويض بعض فصائله، خاصة التي لا تتدخل في أمور السياسة.
وكان الشيخ أسامة عبدالعظيم ينتمي إلى تيار يبتعد عن السياسة، غير أن تصرفاته بدت مغرقة في التشدد الشخصي، وله طقوس قاسية في فتاواه وصلاته ونصائحه وعلى من يريد اتباع منهجه التمسك بها أولا قبل الجلوس بين يديه، من بينها الإطالة لأبعد مدى في الصلاة وارتداء الجلباب وعدم مشاهدة التلفاز.
ودقت جنازة الرجل جرس إنذار بأن التطرف الشكلي قد يكون أشد خطورة من التطرف السياسي، إذ يقود إليه في النهاية، فمشاركة من يحبونه في جنازته تنطوي على قناعة كبيرة بالفكرة التي يحملها الرجل ونشرها في أوساط مريديه، وهي تتعارض في جوهرها مع التوجهات التي تريد أن ترسيها الحكومة بشأن عدم الغلوّ في التدين.
وأشار المشهد إلى التأكيد على أن السلفيين قابعون في قاع المجتمع المصري وعلى استعداد للخروج إلى سطحه في أيّ لحظة، وينتظرون فرصة للإعلان عن قوتهم الحقيقية، وتصورات وزارة الأوقاف لتجفيف المنابع السلفية لم تقترب من الرؤوس الحقيقية لها بذريعة أنهم بعيدون عن السياسة وألاعيبها ولا يملكون مشروعا للمنافسة على السلطة، بالتالي لا يمثلون خطرا داهما على النظام الحاكم.
والأكثر خطورة أن تكون وزارة الأوقاف على يقين أن أتباع السلفية كثيرون وتصعب مواجهتهم فتركت لهم هامشا يتحركون من خلاله، ما يعني أن الحكومة يمكن أن تستيقظ ذات يوم على كابوس جديد يمثله هؤلاء وتصبح جنازة الشيخ أسامة عبدالعظيم بروفة مصغرة لما يمكن أن يحدث إذا قرر السلفيون النزول إلى الشارع.

◙ ظهور الآلاف من المشيعين بزي شبه موحد في أحد شوارع القاهرة يؤكد خواء الخطط التي وضعتها الحكومة في التعامل مع التيار الإسلامي عموما
وفي ظل الأزمات الاقتصادية التي تمر بها مصر يعد السلفيون قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في وجه الحكومة، فالشعبية التي يحرصون على الإيحاء بها عبر مشهد جنازة مهيب أو صلاة حاشدة في أحد ليالي رمضان تحمل إنذارا بأن يدهم طويلة ووجودهم في المجتمع لم يتأثر بخطط أو إجراءات دشنتها الأوقاف المصرية السنوات الماضية.
ويبدو أن المنتمين إلى جماعة الإخوان اختفوا لكنهم اندسوا في صفوف سلفية تعتقد الحكومة أنها أقل خطورة وتسمح لها بمساحة جيدة للحركة بالمساجد والشوارع ووسط شريحة عريضة في المجتمع بحكم ابتعادهم عن السياسة، ما يجعل تغلغل الإخوان سهلا.
وساد اعتقاد في مصر قبل ثورة يناير 2011 يقول إن السلفيين مسالمون ولا علاقة لهم بالسياسة، ثم تحولوا إلى ورقة بالمشهد العام في يد الإخوان عندما انحازت شرائح منهم للتحالف مع الجماعة عقب وصولها إلى الحكم، وهم يتحملون جانبا من خطاياها.
ويميل البعض من المسؤولين إلى التفرقة بين سلفي سياسي وآخر غير سياسي، وأن هناك قدرة على التفرقة بين الفريقين، وحاجة تفرض ترك هامش لغير المسيسين للحركة في النور بدلا من العمل في الظلام لتسهل مراقبتهم، والأهم أن المجتمع المصري يحمل نبتة دينية يصعب اقتلاعها بتعميم المواجهة مع كل التيارات الدينية.
وصار اليقين في التدين الفطري للمجتمع واحدا من التفسيرات التي ضاعفت من صعوبة تخفيف غلواء السلفيين، ومن الدوافع التي سمحت بالمزيد من التغلغل بصورة سهلة، فشيوع هذا الاعتقاد مكنهم من تغيير أسلوب الدعوة إلى التيار مهما تباينت أطيافه، ما ساعدهم في الحصول على مزايا نوعية، بينها عدم التعامل معهم بصرامة.
ناهيك عن أن المعركة المريرة مع الإخوان حصد منها بعض السلفيين الذين أعلنوا ولاءهم للنظام الحاكم في القاهرة مكاسب كبيرة على سبيل التقية، ولم تفرض الأجهزة الأمنية حصارا شديدا عليهم خوفا من اتهامها بمحاربة الدين الإسلامي.
وهي ورقة رفعت عقب سقوط نظام الإخوان ورأت الحكومة مداواتها من خلال ترك مساحة ضيقة، سياسية ومجتمعية، يتنفس منها السلفيون الذين استفادوا من الليونة التي تم التعامل بها مع الأقباط وتعويضهم عمّا تعرضوا له من غبن في سنوات سابقة.
مشهد الجنازة حمل العديد من الرسائل المهمة، في مقدمتها أن الإجراءات التي اتبعتها وزارة الأوقاف لتجفيف منابع المتشددين بألوانهم المختلفة لم تأت بنتائج ملموسة
وأسهمت عملية التوازن التي ظهرت في تصورات النظام المصري في أزمة يمكن أن تتصاعد ملامحها قريبا، طرفاها الأقباط والسلفيون، ويمكن أن تخرج عن السياقات التي رسمها مع ظهور علامات للحساسية بين الجانبين تظهر من حين إلى آخر.
ولذلك فجنازة الشيخ أسامة عبدالعظيم رفعت الغطاء عن جانب معتبر من المسكوت عنه في ممارسات الحكومة مع السلفيين، قد تدفعها إلى إدخال تعديلات على تكتيكاتها في التعامل معهم الفترة المقبلة، لأن الحشود لم تغضب فقط فريقا كبيرا من العلمانيين رأى فيها إشارة على أن الخطر قادم، لكنها أزعجت أيضا أقباطا اعتقدوا أن خطر الجماعات الدينية زال عن مصر.
وقد يتحول تشييع جثمان شيخ سلفي إلى مثواه الأخير إلى علامة فارقة في آلية التعاطي المصري مع الطيف السلفي الكامن في قاع المجتمع ويمكن أن يكتسب أرضا سياسية يصعب أن تستردها الحكومة منه تصب محصلتها في أهداف جماعة الإخوان.