قرية الأشباح البلجيكية تتحول إلى متحف فنون بحثا عن سكان

دويل (بلجيكا) – يبلغ عدد سكان دويل (قرية بلجيكية موجودة على ضفاف نهر شيلدت، تحت ظلال محطة للطاقة النووية) 18 شخصا فقط.
وكانت بيوتها العديدة تؤوي في السابق 800 ساكن، والآن أصبحت أبوابها ونوافذها مغلقة بألواح من الخشب للمزيد من التأمين، بينما اكتست جدرانها بلوحات من فنون الشوارع ورسوم الغرافيتي.
غير أن عدد السكان آخذ في التراجع باطراد، منذ أن تم إدراج القرية ضمن قائمة الإزالة في ستينات القرن الماضي، ولم تقتنع الغالبية العظمى من السكان المحليين بأن هناك سببا وجيها يدعو إلى الاستمرار في الخطط المعلنة لاجتثاث القرية من أجل إيجاد مساحة لتوسيع ميناء أنتورب القريب منها.
وتقع القرية على مقربة من ميناء أنتويرب الذي يعد ثاني أكبر ميناء في أوروبا بعد ميناء روتردام الهولندي، وكانت قرية دويل مزدهرة على ضفاف نهر شيلدت، لكن النصف الثاني من القرن الماضي لم يرحمها، فقد دمرت تماما.
وفي عام 1970 وصل عدد سكان هذه القرية إلى نحو 1700 شخصاً، وكانت السلطات المحلية تخطط لتوسيع ميناء أنتويرب، وهو ما كان يعني وقتها ابتلاعا صريحا للقرية وبيوتها، ولاحقاً تم تجميد حركة البناء في القرية، ما أدى إلى رحيل الأزواج الشباب بسبب عدم وجود المباني السكنية، ولم يعد يسكنها اليوم سوى عدد قليل، يحاولون إبقاء قريتهم على قيد الحياة ومقاومة هدمها بشتى الطرق.
وتم تفريغ القرية من مبانيها وسكانها بمرور الوقت، حيث أصبحت المباني والشوارع خالية، وناضل السكان من أجل التمسك بمجتمعهم، وسرعان ما أصبح المكان يعرف في بلجيكا باسم “قرية الأشباح”.
وتلت هذه التطورات عقود من المعارك القانونية، حيث قاومت مجموعات العمل المجتمعي في القرية مخطط الهدم لصالح توسيع الميناء، وإثر تقلص أعداد السكان بقرية دويل تعرضت المباني لطمس معالمها أو لإهمال صيانتها أو للهدم.
وبسبب عدم استعداد بعض الأشخاص لتقبل مغادرتهم لقريتهم تشهد اليوم نوعاً جديداً من إعادة الإحياء، على يد فناني الشوارع الأكثر شهرة في أوروبا.
وانطلقت حركة مقاومة أطلق عليها اسم “دويل 2020″، وحددت هذه الحركة مهمتها بوضوح، وتقضي هذه المهمة بتحويل القرية إلى مكان مخصص للفن، يعج بالمقاهي والمطاعم، مع افتتاح متحف بحري على امتداد نهر شيلدت.
ومن بين الحجج الداعية إلى إبقاء دويل على قيد الحياة التراث الطبيعي والثقافي الغني الذي تتميز به هذه القرية، كما أنها تفتخر بوجود أقدم طاحونة حجرية في بلجيكا، وبيت من القرن الـ17 يعود إلى عائلة بيتر بول روبنز، أحد أشهر الرسامين الفلمنكيين.
ومنذ ذلك الحين اشتهرت دويل باسم “قرية الأشباح”، على الرغم من أن البعض يعترض على هذا الاسم بحجة أنه لا يزال فيها عدد من السكان يبلغ 18 شخصا، وهو رقم أعلنته الجهة المنظمة لمهرجانها السنوي.
بسبب عدم استعداد بعض الأشخاص لتقبل مغادرتهم لقريتهم تشهد دويل اليوم نوعا جديدا من إعادة الإحياء على يد فناني الشوارع الأكثر شهرة في أوروبا
وأصبحت تلقى إقبالا من نوع مختلف من الأشخاص، مثل فناني الغرافيتي ومستكشفي المناطق الحضرية.
وتقول ليزا ستوشين التي أقامت في القرية طوال الأعوام الخمسة الماضية “هذا عهد جديد، وهناك حيوية جديدة تسري في العروق، مع الكثير من المشاعر الإيجابية المتعلقة بمستقبل القرية”، وشاركت ستوشين في الأنشطة المجتمعية بالقرية، الخاصة بمهرجان سنوي تم تنظيمه في أغسطس الماضي.
وفي النصف الأول من عام 2022 ضمنت اتفاقية تاريخية بين مجموعات العمل المجتمعي بالقرية والحكومة المحلية الفلمنكية وميناء أنتورب مستقبلا جديدا لقرية دويل وسط خطط توسيع الميناء.
ومن أهم محاور هذه الجهود تجديد مستودع تاريخي وتحويله إلى أستوديو فني، يطلق عليه اسم “أتيليه دي نيس” للأعمال الفنية، إلى جانب ورشة للحرف التراثية.
وهذا المستودع يعد أيضا موقعا لمشروع كبير يعنى بتجديد سفينة شحن قديمة تسمى “أورتيليوس”، وتأمل قرية دويل في أن تنظم قريبا جولات في الميناء على متن هذه السفينة.
وتقول ستوشين إن تشويه المباني لا يزال يمثل مشكلة، كما أن القرية “ستعاني دائما من الندوب”، ولكن ذلك هو جزء من حكاية مجتمع القرية، وهي تعرب عن أملها في أن ترى قدوم المزيد من الأشخاص ليقيموا في دويل قريبا.
بينما يقول جيرون يانسن (مشرف على مشروع تراثي) إن التحدي التالي الذي سيواجه قرية دويل هو جزء من الانتقال المجتمعي إلى المستقبل، ويتعلق بأهمية الروابط المحلية.
ويضيف أن التراث “يتعلق بقلب وروح الناس، فهم يبنون بعرق جباههم منازلهم، وهم يعيشون في هذه القرية التي ولد فيها أبناؤهم، وتوفي فيها آباؤهم، وهكذا تستمر الحياة على هذا المنوال، ولا يستطيع أحد أن يدفع لهم أموالا تكفي لتعويضهم عن ترك المجتمع الذي عاشوا فيه”.
وتقدر الجهة المنظمة للمهرجان والشرطة البلجيكية أن 20 ألف شخص حضروا مهرجان شيلت السنوي، والذي كان يتم تنظيمه أصلا للاحتجاج على هدم القرية، ولكنه تحول الآن إلى احتفالية بمستقبل دويل.
وتقر ستوشين، التي تتمسك ببقائها في القرية، بأنه “لم يسبق أن تم ذكر أن قرية دويل تغمرها المشاعر الإيجابية، وأن علاقاتها حسنة مع جميع الأطراف”. كما أعربت عن تفاؤلها بعد عقود من الاضمحلال وتناقص عدد السكان، وتؤكد أن “المستقبل يبدو مشرقا”.