كم قتيلا تشتهي على قائمة الفطور؟

لم يعد من العسير أن تفهم الآن لماذا يُطارد الأطفال الفلسطينيون ولماذا يُقتلون، إنهم أطفال وهذه جريمة كافية، إنهم خطر الآن وخطر سيأتي لاحقا و”تحييدهم” هو العمل الوحيد الصحيح.
الثلاثاء 2022/10/04
لا تستطيع أن تكون طفلا تحت الاحتلال

للفلسطينيين، في كل يوم شهيد أو أكثر. لهم العيشُ تحت احتلال مذعور، يُطلق النار على ضحاياه كما لو أنه في نزهة تصطفُّ على جوانبِها الجثث. ولكن لم يكن في الحسبان أن يبلغ الذعرُ حدَّ مطاردة طفل عائد من المدرسة. لم يكن في الحسبانِ أن ابن السنوات السبع، صار يُشكل خطرا.

الاحتلال الإسرائيلي ليس مذعوراً فحسب. إنه مصابٌ بهستيريا تجعله يطلق النار حتى في المنام، فكيف لا يُطاردُ طفلاً؟

ولقد أسقط جنودُه من القتلى، ما جعلهم يرون في كلِ فلسطينيّ قتيلاً. وفي كلِ طفلٍ عائدٍ من المدرسةِ خطراً.

عندما يقف الجندي الإسرائيلي على حاجز تركبه الهلوسة. يصير يرى أشباحا تحمل السكاكين، فيطلق النار. أحيانا في الهواء من دون أن يكون أمامه أو أن يقترب منه أحد. ولكن يحدث أن تكون الضحية أحداً مّا فعلا، فتؤدي الرصاصة دورها. فيصحو من أثر الهلوسة. ويستأنف يومه العادي. وعندما ينتهي من دوريته، يعود إلى بيته وهو يشعر بالأمان.

◙ يوم قال القاتل للقتيل "لن نسامحكم لأنكم جعلتمونا نقتلكم"، أصبح بوسعك أن تعرف أن الجريمة هي أنت منذ أن كنت طفلا

اليوم، أصبحَ في وسعِ أولئك الجنود أن يشربوا نخبَ الراحةِ قليلاً. فقد مات ريان. كان خطراً وزالْ.

أصبحَ بوسعهم أن يحتفلوا بأنهم بالغوا في الهستيريا حتى أصبحت إسرائيل بفضلهم مستشفىً لمن زادهم القتلُ اليوميُ جنوناً فوق جنونهم القديم الذي علمهم سفكَ الدماء، من دير ياسين إلى صبرا وشاتيلا قبل أن تبلغ أعراضُ الجنونِ حُمى القصفِ في غزة.

جاءَ الآن دور مدارس الأطفال في الضفة، لتصبح هدفا.

ورغم كلِّ ما تراكمَ من جثثهم، ما فتئَ الأطفالُ الفلسطينيون يكثرون، حتى سقط ريانُ قتيلاً في مطاردة.

ظلَّ ريان يركض. كان يقصد العودةَ الى البيتِ، ليُخبر أمّه ماذا تعلمَ في ذلك اليوم من الحروف والكلمات. ولكن دفاتره سقطتْ. وتناثرت الكلمات.

داسها جنود الاحتلال، خوفا من أن تكون المقاومةُ واحدةً منها. داسوها وهم يرتعدون. داسوها وهم يرون في كل طفلٍ حربَهم ضد الإرهاب، لتكون حربا ضد الذاهبين إلى المدرسةِ والعائدين منها، لأنهم إنما ذهبوا ليتعلموا ما يجعل منهم خطرا.

ويقال إنه هرب من البيت عندما داهمه الجنود ليعتقلوا اثنين من إخوته. فلاحقه الجنود حتى توقف قلبه من شدة الخوف.

دفاتر المدرسة بقيت خلفه. والكلمات بقيت تنتظر عودته. ولكن لم يعد. تجمد الخوف في دمه.

◙ رحلة الحياة في فلسطين، الناجي الوحيد منها هو الذي يُقتل مبكرا

ويقال إنه يُحلّق الآن فوق منزله وفوق الطريق بين المنزل والمدرسة. ولا يعرف الجنود الإسرائيليون كيف يوجهون له الصواريخ.

صار شبحا مثيرا للهلوسة. وله رفاق ينتظرون عودته إليهم. لم يعد اللعب كما كان. الموتُ صار هو الدرس، هو الدفتر، هو اللعبة، تلك التي يلعبها الكبار، بعد أن ظنوا أنها لعبتهم وحدهم. بات يشاركهم فيها الأطفال. ربما على سبيل المشاغبة.

أكثر من ألفي طفل غير ريان تم “تحييدهم”. محمد الدرة وآلاء قدوم وحمزة نصار والسجلات تتحدث عن 2230 طفلا آخر، كان يجب أن تُعلق أسماؤهم على جدران الأمم المتحدة. حتى تصل إلى سقفها العالي.

بعضهم خرج ليشتري خبزا، قبل أن يُصبح هو نفسه خبزا، ليُشبع النهم إلى القتل.

الأطفال الفلسطينيون خطرٌ جسيم. الإسرائيليون هم من يُدربونهم على كراهية الاحتلال، وعلى المقاومة. أكثر من 50 ألف طفل من الضفة الغربية اعتقلوا منذ العام 1967. تستطيع الآن أن تعرف، بوضوح، كم مقاوما هناك الآن. فلماذا يتوجب أن يتأخر قتلهم؟

سؤال منطقي تماما. اجتثاث الأطفال من عروقهم لا يختلف عن اجتثاث أشجار الزيتون في أيّ حقل تمتد إليه يد الاحتلال، ليُصبح ميدانا للتدريب.

والتدريب على ماذا، إن لم يكن تدريبا على القتل، على أرض القتيل؟

كن منطقيا لتفهم حاجة إسرائيل إلى الأمن. بقاؤها يعتمد على ما إذا كان هناك عدد أقل من الأطفال. إنهم هم “القنبلة” الديمغرافية التي يتعين تفجيرها في الصغر. أفلا تفهم أن الخوف الذي لم يتجمد في عروقهم يُصبح من تلقاء نفسه إرهابا؟ أفهل يعز عليك أن ترى أيّ مستقبل ينتظر إسرائيل إذا كبروا، وأنجبوا أطفالا، كذويهم، ينامون ويصحون وهم ينتظرون القصف أو رصاصات الهلوسة؟

لا تستطيع أن تكون طفلا تحت الاحتلال. لن يدعك الإسرائيليون ترتكب هذه الجريمة. يأخذونك إلى المعتقل لتصبح رجلا من قبل أن تعلّمك المدرسة.

لم يعد من العسير أن تفهم الآن، لماذا يُطارد الأطفال الفلسطينيون. ولماذا يُقتلون. إنهم أطفال. وهذه جريمة كافية. إنهم خطر الآن. وخطر سيأتي لاحقا. و”تحييدهم” هو العمل الوحيد الصحيح.

“الشاباك” يقرأ في دفاترهم أبجدية المقاومة. فيعرفهم واحدا واحدا، فإن لم يلاحقهم اليوم، يلاحقهم غدا.

◙ عندما يقف الجندي الإسرائيلي على حاجز تركبه الهلوسة. يصير يرى أشباحا تحمل السكاكين، فيطلق النار. أحيانا في الهواء من دون أن يكون أمامه أو أن يقترب منه أحد

تلك هي رحلة الحياة في فلسطين. الناجي الوحيد منها هو الذي يُقتل مبكرا. أما الباقون، فعلى قائمة الصبر ينتظرون.

بموت ريان، وبالمطاردات التي لم تتوقف، سجّل يائير لبيد، لنفسه نقطةً، يتفوقُ بها على منافسه بنيامين نتنياهو. قد يرفعُ سماعةَ الهاتفِ ليقول له: انظرْ، لقد طاردتُ طفلاً. طاردته حتى الموت. فأين يمينكَ المتطرف كله مما يصنعُ جنودي إذا ارتعدوا خوفاً وجُبنا؟

لم يحدث أن أصبح السباق الانتخابي سباقا بالجثث، في أيّ مكان في العالم، أو في أيّ مرحلة في التاريخ، أو في أيّ كابوس من كوابيس الجريمة.

ولكن ما الذي لم يحدث في فلسطين؟ كم مجزرة تريد أن أعطيك لتثبت أنها “أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض”؟ كم قتيلا تشتهي على قائمة الفطور؟ كم رغيف خبز؟

يوم قال القاتل للقتيل “لن نسامحكم لأنكم جعلتمونا نقتلكم”، أصبح بوسعك أن تعرف أن الجريمة هي أنت منذ أن كنت طفلا. الجريمة هي أن تكون فلسطينيا يعتقد أنه موجود، وأن تلك الأرض أرضه، وأن له فيها مقدسات وأشجار زيتون وحقولا برية تُنبت الزعتر.

ريان خبز الاحتلال. خبز المطاردات التي لا تنتهي. خبز الهلوسة التي تحصد كل يوم قتيلا أو أكثر.

8